“لعدم معقولية الواقعة”.. قصة جديدة لـ أحمد عبد العزيز صالح
ثقافة أول اثنين:
أشعل المحقق “مجدي” السيجارة الرابعة فى أقل من ربع ساعة وهو يبذل مجهوداً خرافياً ليبدو هادئا وهو يستمع لأقوال الشهود، حظه العاثر دائمًا يوقعه فى تلك الجرائم الغامضة الغائب عنها الدلائل المباشرة الواضحة.
جثة بدون رأس والشهود جميعهم يؤكدون أن الأسطى”شلبي” القتيل كان يقف أمامهم جميعًا أثناء شجاره مع المعلم “منعم” الجزار، وأخذ يسبه ويلعنه ويتوعده بغضب بالغ ثم دخل دكانه أمامهم جميعًا وأغلق الباب من الداخل ولم يلبى ندائهم المستمر عليه حتى وصل مساعده “متولي” وعند فتحه باب الدكان وجد المعلم “شلبي” غارقًا فى دمائه بدون رأس!!
جلبة وصراخ وتزاحم حتى من النساء والأطفال إلى أن وصلت الشرطة والإسعاف وحملوا جثة الرجل بعد أن فتشوا عن رأسها فى كل شبر من الدكان ولم يجدوا لها أثر.
جلس المعلم “منعم” أمام “مجدي” يحمل علامات الحزن والتأثر على وجهه وهو يُقسم بحدة أنه لم يلمس “شلبي”، – يا كريم يا رب، لولا جدعان الحتة كلهم كانوا واقفين وشايفين بعينهم اللى حصل، كان زمان التهمة لبسانى واتخرب بيتي، ملامح الحزن لم تُخفى عن وجهه سعادة كامنة بداخله أنه أفلت من تهمة كانت ستؤدى به إلى حبل المشنقة.
هل يُعقل أن الرجل قُتل بدون قاتل؟!
عقل” مجدي” يكاد ينفجر وهو يستمع لعشرات الشهود المذعورين وقد تسلل لعقولهم جميعًا كلام الشيخ “سند” أن دكان “شلبي” مسكون بالجن وبلا شك قتلوه بسبب تلك الضوضاء التى يصنعها كل يوم بدكانه وهو يدق النحاس.
مجدى بمكتبه، وفى الخارج وسط زحام الشهود ومن حضر من أقارب القتيل، لا حديث خلاف حديث الشيخ “سند” عن الجن القاتل، أين ذهبت رأس القتيل؟ ومن قتله؟
الغضب والحيرة يفتكون برأس “مجدي” وينتفض فجأة وهو يصيح بمعاونيه ألا يسمحوا لأحد بالمغادرة، عاد متوترًا لدكان شلبى يفتش بداخله بنفسه وهو يخلع سترته وينبش فى الأرض باحثاً عن أى منفذ أو مَخرج يحل لغز الجريمة ويرشده لمكان رأس شلبي، لا دليل.. لا منفذ واحد غير باب الدكان.
أنهى سماع الشهود وخرج برأس منكس يخبر أهل شلبى أن القاتل غير معلوم وستستمر التحقيقات.
صراخ وعويل والمعلم “منعم” يهتف بحماس وبكاء أنه متكفل بأعباء دفن المرحوم، و”مجدي” يجلس واجمًا ينعى سوء حظه وهو متردد أن يدون فى التحقيق أن الشهود أجمعوا أن الجن الغاضب هو القاتل، فقط دون تعليقه فى نهاية التحقيق،
“تُغلق القضية لعدم معقولية الواقعة“..
شئ بداخله نابع من فشله فى حل لغز الجريمة، جعله يفعلها ويحضر الجنازة التى يتقدمها المعلم “منعم” فى الصفوف الأولى ومن لا يعرفه يظنه من أهل شلبى القتيل.
شعوره بمدى تأثر الرجل وبخجل بسبب غلظته معه أثناء التحقيق، جعله يقترب منه ويربت على كتفه ويقدم له واجب العزاء.
“منعم” يومئ برأسه بحزن شديد ويهتف بحرقة.. “ولا دايم إلا وجه الله“.
أغلق الحانوتى باب القبر وعاد المشيعون أدراجهم والمعلم منعم يتبطأ ذراع الشيخ سند ويهمس له بصوت خفيض،
– زى ما اتفقنا يا مولانا.. بكرة العجول هاتندبح وكل نفر من جدعان الحارة هايوصل لحد باب بيته خمسة كيلو لحمة، يبتسم سند بمودة وهو يربت على كتف منعم بإعجاب ويهمس له:
– وأنا اتفقت مع الحانوتى نجيبله بكرة راس المرحوم.. اومال ده إكرام الميت دفنه.
تنهد المعلم منعم ونظر للسماء بإجلال وهو يتمتم بحزن،
“ولا دايم إلا وجه الله“.