ذكرى تنحى جمال عبد الناصر.. النص كاملا
ثقافة أول اثنين:
تمر، اليوم، الذكرى الـ56 على تنحى الرئيس المصرى الراحل جمال عبد الناصر، حيث أعلن فى 9 يونيو 1967، فى خطاب للشعب تنحيه عن رئاسة الجمهورية وذلك بسبب الهزيمة فى حرب الأيام الستة عام 67.
جاء تنحى عبد الناصر فى مساء 9 يونيو 1967، عن رئاسة مصر متحملا مسئولية الهزيمة فى حرب 5 يونيو 1967، إلا أنه تراجع عنها فى اليوم التالى بعد خروج ملايين الناس للتظاهر رفضا لتنحيه، ويقول الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى شهادته التى ذكرها فى كتاب “كلام فى السياسة، ص232 – 234)”: “ما حدث فى 10 يونيو مليء بالمفاجآت المدهشة للدنيا كلها، خرجت كُتل من الناس فور انتهاء جمال عبد الناصر من إلقاء خطاب التنحى تطالبه بأن يبقى مكانه وأن يواصل عمله، وخرجت الجماهير فى كل بلد عربى تصر على مواصلة القتال وتحت قيادة عبد الناصر”. وإليكم نص تنحى ناصر كاملا..
أيها الإخوة.. لقد تعودنا معاً فى أوقات النصر وفى أوقات المحنة.. فى الساعات الحلوة وفى الساعات المرة؛ أن نجلس معاً، وأن نتحدث بقلوب مفتوحة، وأن نتصارح بالحقائق، مؤمنين أنه من هذا الطريق وحده نستطيع دائماً أن نجد اتجاهنا السليم، مهما كانت الظروف عصيبة، ومهما كان الضوء خافتاً.
ولا نستطيع أن نخفى على أنفسنا أننا واجهنا نكسة خطيرة خلال الأيام الأخيرة، لكنى واثق أننا جميعاً نستطيع – وفى مدة قصيرة – أن نجتاز موقفنا الصعب، وإن كنا نحتاج فى ذلك إلى كثير من الصبر والحكمة والشجاعة الأدبية، ومقدرة العمل المتفانية.
لكننا – أيها الإخوة – نحتاج قبل ذلك إلى نظرة على ما وقع؛ لكى نتتبع التطورات وخط سيرها فى وصولها إلى ما وصلت إليه.
إننا نعرف جميعاً كيف بدأت الأزمة فى الشرق الأوسط فى النصف الأول من مايو الماضى. كانت هناك خطة من العدو لغزو سوريا، وكانت تصريحات ساسته وقادته العسكريين كلها تقول بذلك صراحة، وكانت الأدلة متوافرة على وجود التدبير.
كانت مصادر إخواننا السوريين قاطعة فى ذلك، وكانت معلوماتنا الوثيقة تؤكده، بل وقام أصدقاؤنا فى الاتحاد السوفيتى بإخطار الوفد البرلمانى الذى كان يزور موسكو فى مطلع الشهر الماضى؛ بأن هناك قصداً مبيتاً ضد سوريا. ولقد وجدنا واجباً علينا ألا نقبل ذلك ساكتين، وفضلاً عن أن ذلك واجب الأخوة العربية، فهو أيضاً واجب الأمن الوطنى؛ فإن البادئ بسوريا سوف يثنى بمصر.
ولقد تحركت قواتنا المسلحة إلى حدودنا بكفاءة شهد بها العدو قبل الصديق، وتداعت من أثر ذلك خطوات عديدة؛ منها انسحاب قوات الطوارئ الدولية، ثم عودة قواتنا إلى مواقع شرم الشيخ المتحكمة فى مضايق تيران، والتى كان العدو الإسرائيلى يستعملها كأثر من آثار العدوان الثلاثى الذى وقع علينا سنة 1956، ولقد كان مرور علم العدو أمام قواتنا أمراً لا يحتمل، فضلاً عن دواعى أخرى تتصل بأعز أمانى الأمة العربية.
ولقد كانت الحسابات الدقيقة لقوة العدو تظهر أمامنا أن قواتنا المسلحة، بما بلغته من مستوى فى المعدات وفى التدريب؛ قادرة على رده وعلى ردعه، وكنا ندرك أن احتمال الصراع بالقوة المسلحة قائم، وقبلنا بالمخاطرة.
وكانت أمامنا عوامل عديدة؛ وطنية وعربية ودولية، بينها رسالة من الرئيس الأمريكى “ليندون جونسون” سلمت إلى سفيرنا فى واشنطن يوم 26 مايو تطلب إلينا ضبط النفس، وألا نكون البادئين بإطلاق النار، وإلا فإننا سوف نواجه نتائج خطيرة.
وفى نفس الليلة فإن السفير السوفيتى طلب مقابلتى بصفة عاجلة فى الساعة الثالثة والنصف من بعد منتصف الليل، وأبلغنى بطلب ملح من الحكومة السوفيتية ألا نكون البادئين بإطلاق النار.
وفى صباح يوم الاثنين الماضى الخامس من يونيو جاءت ضربة العدو. وإذا كنا نقول الآن بأنها جاءت بأكثر مما توقعناه؛ فلابد أن نقول فى نفس الوقت وبثقة أكيدة إنها جاءت بأكبر مما يملكه، مما أوضح منذ اللحظة الأولى أن هناك قوى أخرى وراء العدو، جاءت لتصفى حساباتها مع حركة القومية العربية. ولقد كانت هناك مفاجآت تلفت النظر:
أولها: أن العدو الذى كنا نتوقعه من الشرق ومن الشمال جاء من الغرب؛ الأمر الذى يقطع بأن هناك تسهيلات تفوق مقدرته، وتتعدى المدى المحسوب لقوته، قد أعطيت له.
وثانياً: فإن العدو غطى فى وقت واحد جميع المطارات العسكرية والمدنية فى الجمهورية العربية المتحدة، ومعنى ذلك أنه كان يعتمد على قوة أخرى غير قوته العادية، لحماية أجوائه من أى رد فعل من جانبنا؛ كما أنه كان يترك بقية الجبهات العربية لمعاونات أخرى استطاع أن يحصل عليها.
وثالثاً: فإن الدلائل واضحة على وجود تواطؤ استعمارى معه؛ يحاول أن يستفيد من عبرة التواطؤ المكشوف السابق سنة 1956، فيغطى نفسه هذه المرة بلؤم وخبث، ومع ذلك فالثابت الآن أن حاملات طائرات أمريكية وبريطانية كانت بقرب شواطئ العدو تساعد مجهوده الحربى. كما أن طائرات بريطانية أغارت فى وضح النهار على بعض المواقع فى الجبهة السورية وفى الجبهة المصرية، إلى جانب قيام عدد من الطائرات الأمريكية بعمليات الاستطلاع فوق بعض مواقعنا.
ولقد كانت النتيجة المحققة لذلك أن قواتنا البرية التى كانت تحارب أكثر المعارك عنفاً وبسالة فى الصحراء المكشوفة؛ وجدت نفسها فى الموقف الصعب؛ لأن الغطاء الجوى فوقها لم يكن كافياً إزاء تفوق حاسم فى القوى الجوية المعادية، بحيث إنه يمكن القول – بغير أن يكون فى ذلك أى أثر للانفعال أو المبالغة – إن العدو كان يعمل بقوة جوية تزيد ثلاث مرات عن قوته العادية.
ولقد كان هذا هو ما واجهته أيضاً قوات الجيش العربى الأردنى التى قاتلت معركة باسلة بقيادة الملك حسين، الذى أقول – للحق وللأمانة – إنه اتخذ موقفاً ممتازاً، وأعترف بأن قلبى كان ينزف دماً وأنا أتابع معارك جيشه العربى الباسل فى القدس وغيرها من مواقع الضفة الغربية، فى ليلة حشد فيها العدو وقواه المتآمرة ما لا يقل عن 400 طائرة للعمل فوق الجبهة الأردنية.
ولقد كانت هناك جهود رائعة وشريفة؛ لقد أعطى الشعب الجزائرى وقائده الكبير هوارى بومدين بغير تحفظات وبغير حساب للمعركة، وأعطى شعب العراق وقائده المخلص عبد الرحمن عارف بغير تحفظات وبغير حساب للمعركة، وقاتل الجيش السورى قتالاً بطولياً معززاً بقوى الشعب السورى العظيم وبقيادة حكومته الوطنية، واتخذت شعوب وحكومات السودان والكويت واليمن ولبنان وتونس والمغرب مواقف مشرفة، ووقفت شعوب الأمة العربية جميعاً بغير استثناء على طول امتداد الوطن العربى موقف الرجولة والعزة، موقف التصميم، موقف الإصرار على أن الحق العربى لن يضيع ولن يهون، وأن الحرب دفاعاً عنه ممتدة مهما كانت التضحيات والنكسات على طريق النصر الحتمى الأكيد.
وكانت هناك أمم عظيمة خارج العالم العربى قدمت لنا ما لا يمكن تقديره من تأييدها المعنوى. لكن المؤامرة – ولابد أن نقول ذلك بشجاعة الرجال – كانت أكبر وأعتى، ولقد كان تركيز العدو الأساسى على الجبهة المصرية؛ التى دفع عليها بكل قوته الرئيسية من المدرعات والمشاة؛ معززة بتفوق جوى رسمت لكم من قبل صورة لأبعاده، ولم تكن طبيعة الصحراء تسمح بدفاع كامل؛ خصوصاً مع التفوق المعادى فى الجو. ولقد أدركت أن تطور المعركة المسلحة قد لا يكون مواتياً لنا، وحاولت مع غيرى أن نستخدم كل مصادر القوة العربية، ولقد دخل البترول العربى ليؤدى دوره، ودخلت قناة السويس لتؤدى دورها، ومازال هناك دور كبير مطلوب من العمل العربى العام، وكلى ثقة فى أنه سوف يستطيع أداءه. ولقد اضطرت قواتنا المسلحة فى سيناء إلى إخلاء خط الدفاع الأول، وحاربت معارك رهيبة بالدبابات والطائرات على خط الدفاع الثانى.
ثم استجبنا لقرار وقف إطلاق النار، أمام تأكيدات وردت فى مشروع القرار السوفيتى الأخير المقدم إلى مجلس الأمن، وأمام تصريحات فرنسية، بأن أحداً لا يستطيع تحقيق أى توسع إقليمى على أساس العدوان الأخير، وأمام رأى عام دولى – خصوصاً فى آسيا وأفريقيا – يرى موقفنا، ويشعر ببشاعة قوى السيطرة العالمية التى انقضت علينا.
وأمامنا الآن عدة مهام عاجلة:
المهمة الأولى: أن نزيل آثار هذا العدوان علينا، وأن نقف مع الأمة العربية موقف الصلابة والصمود. وبرغم النكسة فإن الأمة العربية بكل طاقاتها وإمكانياتها قادرة على أن تصر على إزالة آثار العدوان.
والمهمة الثانية: أن ندرك درس النكسة، وهناك فى هذا الصدد ثلاث حقائق حيوية:
1ـ إن القضاء على الاستعمار فى العالم العربى يترك إسرائيل بقواها الذاتية، ومهما كانت الظروف ومهما طال المدى، فإن القوى الذاتية العربية أكبر وأقدر على الفعل.
2- إن إعادة توجيه المصالح العربية فى خدمة الحق العربى ضمان أولى، فإن الأسطول الأمريكى السادس كان يتحرك ببترول عربى، وهناك قواعد عربية وضعت قسراً – وبرغم إرادة الشعوب – فى خدمة العدوان.
3- إن الأمر الآن يقتضى كلمة موحدة تسمع من الأمة العربية كلها، وذلك ضمان لا بديل له فى هذه الظروف.
نصل الآن إلى نقطة هامة فى هذه المكاشفة بسؤال أنفسنا: هل معنى ذلك أننا لا نتحمل مسئولية فى تبعات هذه النكسة؟ وأقول لكم بصدق – وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفى فى الأزمة – فإننى على استعداد لتحمل المسئولية كلها، ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدونى عليه: لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أى منصب رسمى وأى دور سياسى، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدى واجبى معها كأى مواطن آخر.
إن قوى الاستعمار تتصور أن جمال عبد الناصر هو عدوها، وأريد أن يكون واضحاً أمامهم أنها الأمة العربية كلها وليس جمال عبد الناصر.
والقوى المعادية لحركة القومية العربية تحاول تصويرها دائماً بأنها إمبراطورية لعبد الناصر، وليس ذلك صحيحاً؛ لأن أمل الوحدة العربية بدأ قبل جمال عبد الناصر، وسوف يبقى بعد جمال عبد الناصر.
ولقد كنت أقول لكم دائماً: إن الأمة هى الباقية، وأن أى فرد مهما كان دوره، ومهما بلغ إسهامه فى قضايا وطنه، هو أداة لإرادة شعبية، وليس هو صانع هذه الإرادة الشعبية.
وتطبيقاً لنص المادة 110 من الدستور المؤقت الصادر فى شهر مارس سنة1964 فلقد كلفت زميلى وصديقى وأخى زكريا محيى الدين بأن يتولى منصب رئيس الجمهورية، وأن يعمل بالنصوص الدستورية المقررة لذلك، وبعد هذا القرار فإننى أضع كل ما عندى تحت طلبه، وفى خدمة الظروف الخطيرة التى يجتازها شعبنا.
إننى بذلك لا أصفى الثورة، ولكن الثورة ليست حكراً على جيل واحد من الثوار، وإنى لأعتز بإسهام هذا الجيل من الثوار. لقد حقق جلاء الاستعمار البريطانى، وحقق استقلال مصر، وحدد شخصيتها العربية، وحارب سياسة مناطق النفوذ فى العالم العربى، وقاد الثورة الاجتماعية، وأحدث تحولاً عميقاً فى الواقع المصرى أكد تحقيق سيطرة الشعب على موارد ثروته وعلى ناتج العمل الوطنى، واسترد قناة السويس، ووضع أسس الانطلاق الصناعى فى مصر، وبنى السد العالى ليفرش الخضرة الخصبة على الصحراء المجدبة، ومد شبكات الكهرباء المحركة فوق وادى النيل الشمالى كله، وفجر موارد البترول بعد انتظار طويل. وأهم من ذلك وضع على قيادة العمل السياسى تحالف قوى الشعب العاملة؛ الذى هو المصدر الدائم لقيادات متجددة تحمل أعلام النضال الوطنى والقومى مرحلة بعد مرحلة، وتبنى الاشتراكية، وتحقق وتنتصر.
إن ثقتى غير محدودة بهذا التحالف القائد للعمل الوطنى؛ الفلاحون والعمال والجنود والمثقفون والرأسمالية الوطنية. إن وحدته وتماسكه، والتفاعل الخلاق داخل إطار هذه الوحدة قادر على أن يصنع بالعمل؛ وبالعمل الجاد، وبالعمل الشاق – كما قلت أكثر من مرة – معجزات ضخمة فى هذا البلد؛ ليكون قوة لنفسه، ولأمته العربية، ولحركة الثورة الوطنية، وللسلام العالمى القائم على العدل.
إن التضحيات التى بذلها شعبنا، وروحه المتوقدة خلال فترة الأزمة، والبطولات المجيدة التى كتبها الضباط والجنود من قواتنا المسلحة بدمائهم؛ سوف تبقى شعلة ضوء لا تنطفئ فى تاريخنا، وإلهاماً عظيماً للمستقبل وآماله الكبار. لقد كان الشعب رائعاً كعادته، أصيلاً كطبيعته، مؤمناً صادقاً مخلصاً.
وكان أفراد قواتنا المسلحة نموذجاً مشرفاً للإنسان العربى فى كل زمان ومكان؛ لقد دافعوا عن حبات الرمال فى الصحراء إلى آخر قطرة من دمهم، وكانوا فى الجو – وبرغم التفوق المعادى – أساطير للبذل وللفداء وللإقدام، والاندفاع الشريف إلى أداء الواجب أنبل ما يكون أداؤه.
إن هذه ساعة للعمل وليست ساعة للحزن، إنه موقف للمثل العليا وليس لأية أنانيات أو مشاعر فردية. إن قلبى كله معكم، وأريد أن تكون قلوبكم كلها معى، وليكن الله معنا جميعاً؛ أملاً فى قلوبنا وضياءً وهدى.
والسلام عليكم ورحمة الله.