التاريخ الإسلامي

أبو هريرة رضي الله عنه وقصة إسلام أمه: دروس وعبر وفوائد


أبو هريرة رضي الله عنه وقصة إسلام أمِّه

دروس وعبر وفوائد

 

بينما كنت أبحث عن أحاديثَ تبرز فَهم الصحابة؛ لأضعها في كتابي (أفهام الصحابة)، وقفت على حديث عجيب لأبي هريرة رضي الله عنه، الذي فيه قصة إسلام أمِّه، فأثَّر فيَّ جدًّا، وعشت معه حالة من الحب لأبي هريرة رضي الله عنه، بل خطبت الجمعة عن هذا الحديث، وما فيه من دروس وعبر وفوائد، فلا بد للمسلم من الاستهداء بالسُّنَّة، كما أنه يستهدي بالقرآن الكريم؛ ففي الكتاب والسنة من أسباب الهداية ووسائلها ما الله به عليم، فَلَربما اهتدى المرء بحديث أو فائدة من حديث، ولربما أبكاه الحديث كما تبكيه الآية، والسعيد من أقبل على الوحي كتابًا وسُنة، فانتفع بهما، واستهدى، فإليكم ما منَّ الله عليَّ بجمعه واستنباطه من ذلكم الحديث الشريف.

 

الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب: من فضائل أبي هريرة رضي الله عنه، وكذا رواه أحمد في مسنده، في مسند أبي هريرة، وابن حبان في صحيحه، وابن سعد في طبقاته، والذهبي في سير أعلام النبلاء، واللفظ لمسلم.

 

عن أبي كثير يزيد بن عبدالرحمن، حدثني أبو هريرة، قال: ((كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يومًا، فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليَّ، فدعوتها اليوم، فأسمعتني فيك ما أكره، فادْعُ الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهدِ أمَّ أبي هريرة، فخرجت مستبشرًا بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما جئت، فصِرتُ إلى الباب، فإذا هو مجافٍ، فسمِعت أمي خَشفَ قدميَّ، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعتُ خَضْخَضَةَ الماء، قال: فاغتسلت ولبِست دِرعَها، وعجِلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله، أبْشِرْ، قد استجاب الله دعوتك، وهدى أم أبي هريرة، فحمِدَ الله وأثنى عليه، وقال خيرًا، قال: قلت: يا رسول الله، ادْعُ الله أن يحبِّبني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم حبِّب عبيدك هذا – يعني أبا هريرة – وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبِّب إليهم المؤمنين، فما خُلِق مؤمن يسمع بي، ولا يراني إلا أحبني)).

 

وفي رواية المسند بسند حسن عن أبي كثير، حدثني أبو هريرة، ((وقال لنا: والله ما خلق الله مؤمنًا يسمع بي، ولا يراني إلا أحبني، قلت: وما علمك بذلك يا أبا هريرة؟ قال: إن أمي كانت امرأةً مشركةً، وإني كنت أدعوها إلى الإسلام، وكانت تأبى عليَّ، فدعوتها يومًا فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام، وكانت تأبى عليَّ، وإني دعوتها اليوم، فأسمعتني فيك ما أكره، فادْعُ الله أن يهديَ أمَّ أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهْدِ أمَّ أبي هريرة، فخرجت أعدو أبشِّرها بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أتيت الباب، إذا هو مجاف، وسمعت خضخضة الماء، وسمعت خشف رِجْلي – يعني: وقعهما – فقالت: يا أبا هريرة، كما أنت، ثم فتحت الباب وقد لبست درعها، وعجلت عن خمارها، فقالت: إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي من الفرح، كما بكيت من الحزن، فقلت: يا رسول الله، أبْشِرْ؛ فقد استجاب الله دعاءك، وقد هدى أم أبي هريرة، فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم حبب عبيدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحببهم إليهما، فما خلق الله مؤمنًا يسمع بي، ولا يراني، أو يرى أمي، إلا وهو يحبني)).

 

الفوائد والدروس والعبر:

1- منقبة عظيمة لأبي هريرة وأمه رضي الله عنهما؛ فقد دعا لهما النبي صلى الله عليه وسلم بمحبة المؤمنين لهم، وبحبهم للمؤمنين.

 

2- حِرْص أبي هريرة على الدعوة إلى الله، خصوصًا عشيرته الأقربين، وصبره على الدعوة، وعدم الملل والجزع.

 

3- أدب أبي هريرة؛ حيث لم يذكر ما قالته أمه تفصيلًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما جعل الأمر مجملًا؛ فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأسمعتني فيك ما أكره).

 

4- حب أبي هريرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: (فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي)، فبكاؤه ربما يكون حزنًا بسبب سب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو حزنًا لاستبعاده هداية أمه، وإنقاذها من النار، ويحتمل أنه يكون بكاؤه للسببين معًا.

 

5- رحمة أبي هريرة بأمِّه، وبره بها، فلم يزجرها، ولم ينهرها، ولم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم فتوى لإيذائها، أو لعقوقها، أو لهجرها، إنما طلب بكل رقة ورحمة ورأفة هدايتها؛ قال: (فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة)، ولم يقل: أمي، وكأنه يقول: ادع الله أن يهدي أم هذا العبيد المسكين الذي تحرَّق قلبه على أمه، ويشتاق لإسلامها.

 

6- رأفة النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته بأبي هريرة؛ حيث بادر بالدعاء، وبنفس لفظ أبي هريرة رضي الله عنه: ((اللهم اهدِ أمَّ أبي هريرة)).

 

7- في الحديث فقه الاستبشار والتبشير، وعدم القنوط واليأس؛ فقد استبشر أبو هريرة رضي الله عنه بدعوة حبيبه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو يعلم أنه مستجاب الدعوة، فطار فرحًا بهذه الدعوة؛ وقال في رواية مسلم: (فخرجت مستبشرًا بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم)، وذهب ليمارس عبادة مهجورة؛ وهي التبشير بالخير؛ ففي رواية أحمد: (فخرجت أعدو أبشِّرها بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم).

 

تأمل خرج يعدو يسرع فرحًا؛ لعل أمه تسعَد بذلك، ذهب ليبشر المشركة التي أبكته منذ قليل؛ بسبب ما أسمعته في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

وفِقْهُ التبشير هذا واضح أيضًا في الحديث، لما أسلمت أمه فذهب باكيًا من الفرح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (قلت: يا رسول الله، أبْشِرْ قد استجاب الله دعوتك، وهدى أمَّ أبي هريرة).

 

فبدأ بقوله: (يا رسول الله)، بدأ بالنداء، ثم بفعل الأمر (أبشر)، ثم سبب البشرى، وفي ذلك من الأدب والبلاغة والفصاحة ما تعجز عنه العبارة، فهل من متعلم من أبي هريرة رضي الله عنه ومتأدب مثله؛ يحب للمسلمين ما يحبه لنفسه، يقشعر جلده وبدنه فرحًا لأخيه عند سماع خبر يسره، ثم يقشعر تارة أخرى عند تبشيره بقوله: يا فلان أبشر فقد…؟

 

8- فيه نسبة الخير لأهله؛ فقد قال أبو هريرة: (قد استجاب الله دعوتك، وهدى أم أبي هريرة)، فقدَّم سبب الهداية على الهداية، وهذا من أدبه رضي الله عنه.

 

9- كما أنه أحب إسلام أمه، وفرح به، فإنه أحب تبشير رسول الله وفرحته بإنقاذ نفس من النار، ولربما كان فرحُ أبي هريرة بفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكبر من فرحه بإسلام أمه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفرح بإسلام الكفار؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم الغلام اليهودي: ((الحمد الله الذي أنقذه بي من النار)).

 

10- يبدو أن أبا هريرة كان يعلم أمه تعاليم الإسلام وفقهه وهي مشركة، وإلا فمن أين علمت أن الكافر إذا أسلم، يغتسل، وينطق الشهادتين؟

 

11- في الحديث بِرُّ أبي هريرة بأمه، رغم كونها مشركة، كان بارًّا بها، لا يمل من دعوتها إلى الإسلام، لا يمل من محاولة إخراجها من الظلمات إلى النور؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15]؛ قال السعدي رحمه الله تعالى: “ولم يقل: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فعقهما، بل قال: ﴿ فَلَا تُطِعْهُمَا ﴾ [لقمان: 15]؛ أي: بالشرك، وأما برهما، فاستمر عليه؛ ولهذا قال: ﴿ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15]؛ أي: صحبة إحسان إليهما بالمعروف، وأما اتباعهما وهما بحالة الكفر والمعاصي، فلا تتبعهما.

 

وفي صحيح البخاري ومسلم قالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: ((قدِمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: قدمت عليَّ أمي وهي راغبة، أفأَصِلُ أمي؟ قال: نعم، صِلِي أمكِ))، فما أجمل دين الإسلام، وأنعم به من شريعة!

 

12- بلاغة أبي هريرة وفصاحته؛ استمع إلى كلماته ودقة وصفه، ووجازة عبارته وجمالها؛ ففي رواية مسلم قال: (فلما جئت، فصرت إلى الباب، فإذا هو مجاف، فسمِعتْ أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمِعتُ خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها، وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب).

 

وفي رواية أحمد قال: (فلما أتيت الباب، إذا هو مجاف، وسمِعتُ خضخضة الماء، وسمِعتْ خشف رجلي – يعني: وقعهما – فقالت: يا أبا هريرة، كما أنت، ثم فتحت الباب وقد لبست درعها، وعجلت عن خمارها).

 

تأمل الكلمات، واستمع لبلاغتها وجمال فصاحتها، فكأنك تبصرهما وتبصر حالهما.

 

13- تبدو أم أبي هريرة هنا فَرِحةً بإسلامها، وكذا فرِحة لفرح أبي هريرة المتوقع، الذي طالما دعاها للإسلام، وذاب قلبه شوقًا لإيمانها؛ فقد لبِست دِرعها وعجلت عن خمارها، فلم تلبَسْه، وكأنها عجِلت لتسرع إلى تبشير أبي هريرة رضي الله عنه.

 

14- فيه استجابة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفور بعين المسؤول، وهو من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم.

 

15- فيه استحباب حمد الله عند حصول النعم؛ [النقطة 14، 15، قالهما النووي رحمه الله في المنهاج 114 /8].

 

16- أن البكاء أنواع؛ فهناك بكاء الحزن كبكاء أبي هريرة الأول، وهناك بكاء الفرح كبكاء أبي هريرة الثاني، وهناك البكاء من الشوق والبكاء من خوف الله، وهناك أسباب أخرى للبكاء.

 

في مسند أحمد قال أبو هريرة: (فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي من الفرح، كما بكيت من الحزن).

 

والشاعر يقول:

طفح السرور عليَّ حتى إنه
من عظمِ ما قد سرني أبكاني

17- ينبغي للمرء أن يتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأدب عند حدوث النعمة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم رغم كون الهداية كانت بسبب دعوته، فإنه لم يعجَب بدعائه، بل نسب الأمر لصاحب الخلق والأمر، فحمِد الله، وأثنى عليه، وقال خيرًا، فحمد الله الذي هدى وأثنى عليه، وقال خيرًا، صلوات ربي وسلامه عليه، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن دائم الحمد والثناء لربه في كل أحواله.

 

18- بيان قدرة الله سبحانه وتعالى غيَّر حال المرأة المشركة التي سبَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهداها، فقالت: (يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله).

 

19- عمق فَهم أبي هريرة، وكمال توفيقه، فلم يكتَفِ بإسلام أمه، بل طلب ذلكم الموفَّق من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يحببه وأمه إلى عباده المؤمنين، وأن يحببهم إليهما.

 

20- فيه أن أبا هريرة رجل موفَّق؛ فهو يعلم أن محبة الخلق له ولأمه علامة من علامات محبة الله لهما؛ وقد قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ [مريم: 96]؛ قال السعدي رحمه الله: “هذا من نِعَمِهِ على عباده، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، أنْ وعدهم أنه يجعل لهم ودًّا؛ أي: محبة ووِدادًا في قلوب أوليائه، وأهل السماء والأرض، وإذا كان لهم في القلوب وُدٌّ، تيسَّر لهم كثير من أمورهم، وحصل لهم من الخيرات والدعوات، والإرشاد والقبول والإمامة ما حصل؛ ولهذا ورد في الحديث الصحيح: ((إن الله إذا أحب عبدًا، نادى جبريل: إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يُوضَع له القَبول في الأرض))، وإنما جعل الله لهم ودًّا؛ لأنهم ودوه، فودَّدهم إلى أوليائه وأحبابه”.

 

20- استجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى لأبي هريرة؛ حيث دعا بنفس الكلمات، بل استعمل اللفظ الجميل: ((عبيدك هذا))؛ وصدق الله إذ يقول: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].

 

21- فيه استجابة الله لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: (فما خلق الله مؤمنًا يسمع بي، ولا يراني، أو يرى أمي، إلا وهو يحبني).

 

22- أنه ينبغي الدعاء للأقارب وسائر المسلمين بهذين الدعاءين؛ فقد أقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه.

 

23- فيه أن من أبغض أبا هريرة رضي الله عنه، أو انتقص من قدره، أو أثار الشبهات حوله، فإنه فيه من النفاق ما فيه؛ لأنه لا يحب أبا هريرة.

 

24- وفيه: إثبات الأسباب الشرعية، وكذلك إثبات الأسباب القدرية من باب أولى؛ لأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم تسببت في هداية أم أبي هريرة، فسرعان ما هداها الله إلى الإسلام، وجاء أبو هريرة مسرعًا؛ فقال: (يا رسول الله، أبْشِرْ؛ فقد استجاب الله دعاءك، وقد هدى أم أبي هريرة)؛ قال ابن عثيمين رحمه الله في تفسير سورة النساء عند قوله تعالى: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ ﴾ [النساء: 155]؛ الآية؛ قال: “وإثبات الأسباب المؤثرة في مسبباتها من مقتضى حكمة الله عز وجل؛ لأن الشيء لو وقع صدفة هكذا، لكان سفهًا، لكن إذا وقع الشيء مربوطًا بسببه، دلَّ ذلك على الحكمة والإتقان، الإنسان الذي يفعل الشيء اعتباطًا بدون سبب موجب له لا يُعَدُّ حكيمًا، لكن الذي يفعل الشيء بأسبابه، والمؤثرات فيه، هذا هو الحكيم، والله عز وجل قد ربط المسببات بالأسباب، ولكن يجب أن نعلم أنه لقصورنا ونقصنا، قد نعلم السبب وقد لا نعلم، إذًا فيه إثبات الأسباب، والناس في الأسباب انقسموا إلى ثلاثة أقسام: قسم فرَّط، وقسم أفرط، وقسم توسَّط، وخير الأمور الوسط؛ قسم فرَّط وقال: إنه لا أثر للأسباب إطلاقًا، حتى النار التي تحرق الورق ليس لها أثر فيها، واحتراق الورق لم يكن بالنار ولكن عند النار، أفهمتم؟ واحتجوا لذلك بأنك لو أثبتت أن للسبب تأثيرًا في المسبب، لأشركت بالله حتى قالوا: أي إنسان يثبت سببًا فهو مشرك في الربوبية، وقسم أفرط وجاوز الحد، وقال: إن الأسباب مؤثرة بطبيعتها، ولا بد ولا يمكن أن تتخلف الأسباب، وهؤلاء أخطؤوا أيضًا، أفرطوا، القسم الثالث قالوا: إن الأسباب مؤثرة لا بنفسها، ولكن بما أودع الله فيها من القوى المؤثرة، وهؤلاء هم أهل الحق، سواء كان السبب قدريًّا أو كان السبب شرعيًّا؛ ولذلك نجد بعض الأشياء مشروعة، لها أسباب، ولها موانع؛ مثل: الإرث، له سبب وله مانع، ربما يكون أبوك الذي يرث مالك كله إذا انفرد به، لا يرث شيئًا، مع وجود السبب، لماذا؟ لوجود المانع، إذا السبب غير مؤثر الآن، فالذي جعل الأبوة سببًا للإرث جعل القتل مانعًا من الإرث مثلًا، كذلك أيضًا الأسباب القدرية، هذه النار مُحْرِقَةٌ جعل الله فيها قوة الإحراق، ولما أُلقِيَ فيها إبراهيم قال الله لها: ﴿ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]، فانتفى الإحراق مع أنها سبب مؤثر بأمر الله، ولكن لم تؤثر لما قال الله لها: ﴿ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]، فكانت بردًا وسلامًا عليه؛ قال أهل العلم: إن الله تعالى لو قال لها: كوني بردًا فقط، لهلك من البرد، الله أكبر، لكن قال: ﴿ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا ﴾ [الأنبياء: 69]؛ لئلا تهلكه بالبرد، فكانت بردًا وسلامًا عليه، إذًا نقول: إن الأسباب مؤثرة بما أودع الله فيها من القوى المؤثرة لا بنفسها، وحينئذٍ لم نشرك، وإنما قلنا بما تقتضيه ربوبية الله وحكمة الله؛ ربوبية الله بالتأثير، وحكمة الله بقرن المسبب بسببه، وهذا هو الحق، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة”.

 

هذا ما منَّ الله به عليَّ بجمعه واستنباطه من ذلكم الحديث الشريف.

 

وأخيرًا ينبغي ألَّا نهمل السنة النبوية والاستهداء بها، وينبغي أيضًا حب الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وسلامة الصدر تجاههم، واتباع آثارهم بإحسان؛ كي نُحشَر معهم؛ ففي صحيح البخاري ((أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنت مع من أحببت، قال أنس: فما فرحنا بشيء، فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت، قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم)).

 

فاللهم ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].

 

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، ورضِيَ الله عن أبي هريرة وأمه وسائر الصحابة أجمعين.





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى