المضامين التربوية المستنبطة من فترة وجود يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن (2)
المضامين التربوية المستنبطة
من فترة وجود يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن (2)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
استكمالًا لما تم طرحه في المقال الأول حول هذا العنوان البحثي لهذه الفترة من حياة نبي الله يوسف عليه السلام، وما تضمنته من مضامين تربوية، حاولتُ جاهدًا استنباطها؛ لأن المقصود الأعظم من قراءة كتاب الله أن يتدبر القارئ الآيات القرآنية؛ ليسترشد بها في حياته، ولا شك أن قصص الأنبياء من المصادر العظيمة التي لا ينضب معينها مهما تدبر المتدبرون لها؛ لذا أطرح بين يدي القارئ الملح الثاني من ملامح هذا الموضوع البحثي، ونحن نتكلم عن هذه الفترة من حياة يوسف عليه السلام، وأسميتها: طبيعة الحياة التي عاشها يوسف عليه السلام في بيت عزيز مصر إلى أن أودع في السجن ظلمًا وبهتانًا، وبعد استعراض هذه الطبيعة من حياة نبي الله يوسف عليه السلام في هذه الفترة، سوف أبحر بفكري في استنباط بعض المضامين التربوية لعل الله أن ينفعنا بها، وينفع بها من يطالعها، والله الهادي لسواء السبيل.
فأقول مستعين بالله:
لتحديد طبيعة الحياة التي عاشها يوسف عليه السلام في بيت عزيز مصر إلى أن أُودِع السجن، فلا مجال لتحديدها وكيفيتها على الوجه الصحيح إلا من خلال ما اشتملت عليه الآيات القرآنية في كتاب الله تعالى؛ لأنه لا مجال للعقل فيما لم يرد فيه نص من الغيبيات الماضية أو المستقبلة إلا ما حدَّده الله عز وجل وتعرَّض لذكره في كتابه الكريم، أو تعرضت له السنة النبوية الصحيحة فيما ورد عن رسوله الكريم، وما عدا هذين المصدرين فيجب عدم التسليم له.
ومن هنا فإن الباحث يستعرض الآيات التي تضمنت هذه الفترة ويعود إلى بعض التفاسير الموثوق بها في هذا المجال التي لا تتعرض للخوض والتحديد إلا بما ورد نصًّا، وعدد آيات هذه الفترة اثنتا عشرة آية من الآية 21 إلى الآية 32.
أولى هذه الآيات لهذه الفترة، قاله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21].
هذه الآية تشير بكل وضوح إلى طبيعة الحياة التي عاشها يوسف عليه السلام منذ وصوله بيت عزيز مصر، فقد أوصى به زوجته بأن تُحسِن رعايته وإكرامه ﴿ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ ﴾، والمثوى مكان الثوي والمبيت والإقامة، والمقصود بإكرام مثواه: إكرامه، ولكن التعبير جاء هنا أعمق؛ لأنه جعل الإكرام لا لشخصه فحسب، بل ولمكان إقامته، وهذا مبالغة في إكرامه عليه السلام.
وهذا الإكرام من عزيز مصر ليوسف عليه السلام، كان لمَّا توسَّم فيه من النجابة؛ لذا قال: ﴿ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ﴾ “إما أن ينفعنا كنفع العبيد، بأنواع الخدم، وإما أن نستمتع به استمتاعنا بأولادنا”[1].
فعاش كريمًا مكرمًا بعد تلك المحنة التي تعرض لها من إخوته بإلقائه في الجُبِّ وبيعه لعزيز مصر على أنه رقيق وعبد وخادم يُباع ويُشترى، ولكن الله عز وجل سخر له ذلك الرجل وهيَّأ له تلك الإقامة التي أتاحها له طريق العلم وتأويل الأحاديث، قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ﴾، قال السعدي: “كما يسرنا له أن يشتريه عزيز مصر، ويكرمه هذا الإكرام، جعلنا هذا مقدمة لتمكينه في الأرض، من هذا الطريق.. إذا بقي لا شغل له ولا هم سوى العلم؛ صار ذلك من أسباب تعلمه علمًا كثيرًا، من علم الأحكام، وعلم التعبير، وغير ذلك”[2].
ثم يُبيِّن الله حقيقةً وسنةً ربانيةً لا تتغيَّر بزمان ولا بمكان، بل هي ماضية ثابتة في كل زمان ومكان ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾، قال السعدي: “أي: أمره تعالى نافذ، لا يبطله مبطل، ولا يغلبه مغالب”[3]، وإن كان يجهل هذه الحقيقة أكثر الناس بنص القرآن، فالسنة الربانية مُتحقِّقة بأن الله غالب على أمره، وأن النصر والتمكين في نهاية المطاف لأهله وخاصته، وهذا مُتحقِّق في يوسف عليه السلام بعدما وجد وعانى ما عانى من الابتلاء في حياته؛ فتحقق في يوسف عليه السلام ما أراد الله له من التمكين مع ما فعل به أخوته ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ﴾!
ويكبر يوسف عليه السلام ويشب في بيت عزيز مصر، ويبلغ مبلغ الرجال مع إتيانه العلم والحكمة وتأويل الحديث الذي هيأ الله له السبل في نيله في الفترة الماضية التي وجد فيه إكرام المثوى وحسن الإقامة.
وتبدأ مرحلة جديدة من حياته عليه السلام، يجد فيها محنةً وابتلاءً جديدًا من نوع آخر قل ما يثبت عنده الرجال الكبار، فكيف بالشباب الذين يتدفقون حيويةً ونشاطًا وطاقةً وقوةً في جميع مجالات حياتهم؟!
فكيف إذا امتلك أحد هؤلاء الشباب مقومات الجمال، وسهولة إرواء الغرائز البشرية الهائجة المتدفقة، وجاءته الدعوة صريحة من الطرف الآخر لإروائها في أمن وأمان من أعين الآخرين؟!
هنا لا يثبت أمام هذا الإغراء الفاتن إلا من ثبَّتَه الله عز وجل بالإيمان اليقيني، قال صلى الله عليه وسلم: “سبعة يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّه يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّه -وعد منهم- ورجلٌ طلبتهُ امرأةٌ ذات منصب وجمال، فقال: إني أخافُ الله..”[4].
ويوسف عليه السلام نموذج حيٌّ لهذه الشخصية الشابة التي انتصرت على شهوتها، وقالت بكل صراحة ووضوح وإيمان واستعلاء: “إني أخافُ الله”، قال الله عز وجل حاكيًا هذه الفترة من عمره عليه السلام: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [يوسف:22- 23].
فيحكي الله عز وجل في هذه الآيات قصة مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام وهو في قعر بيتها “والمسكن واحد يتيسر فيه إيقاع الأمر المكروه من غير شعور ولا إحساس بشر، وزادت المصيبة بأن [غلَّقَت الأبواب] وصار المحل خاليًا، وهما آمنان من دخول أحد عليهما؛ بسبب تغليق الأبواب”[5].
ومع هذا التهيؤ الكامل من امرأة العزيز في الوضع الداعي إلى الفاحشة بأنها بادرت بدعوة يوسف عليه السلام إلى نفسها: ﴿ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ﴾؛ أي: افعل الأمر المكروه وأقبِل إليَّ، قال السعدي (ص408): ومع هذا فهو غريب، لا يحتشم مثله ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه، وهو أسير تحت يدها، وهي سيدته، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك.
وهنا يعلن يوسف عليه السلام بكل ثبات المؤمن بالله، المعتز بإيمانه، المراقب لله عز وجل في خلجاته وسكناته، قال: ﴿ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾.
والنص القرآني صريح وبيِّن وقاطع في أن رد يوسف عليه السلام كان مباشرًا على هذا الإغراء والدعوة إلى الفاحشة بالتأبي والتمنُّع المصحوب بخوف الله عز وجل ومراقبته، وتذكُّر نعمة الله تعالى عليه، وهكذا عندما يعلو الإيمان في قلب صاحبه لا يلتفت إلى شيءٍ من هذه التُّرَّهات الرخيصة الفانية؛ فما أعظم تلك النفوس المؤمنة عندما يعلو بها الإيمان!
وهنا لا بُدَّ أن نذكِّر بأن النفس المؤمنة وإن ضعفت؛ لكثرة المغريات، وتفنُّن العرض للشهوات الفاتنة؛ لكنها سرعان ما تنتصر عليها إذا تذكرت مخافة الله ومراقبته، علا بها الإيمان، ومضت في طريقها عزيزةً كريمةً، أمَّا إن كان ذلك الضعف مجرد خاطر وهم نفسي لا يعقبه عزم وفعل ولم يمضِ في طريق الغواية؛ فإن هذا يعد من كمال النفس الإنسانية، وواقعية هذا الدين الذي يتعامل مع هذه النفس في جميع مناحي الحياة بكل اعتدال ووسطية وفق منهج الإسلام الذي يقر الغرائز؛ ولكنه يُهذِّبها ويُوجِّهها إلى وجهتها الصحيحة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201]، وقال صلى الله عليه والسلام: “إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثَتْ به أنفسَها ما لم تعمل، أو تتكلم” قال قتادة إذا طلَّق في نفسه فليس بشيء”[6].
ثم بعد هذا الاستطراد المهم لتوضيح هذه الفترة بالذات، نعود بالحديث إلى سياق أحداث يوسف عليه السلام وامرأة العزيز، في هذه الفترة المحرجة، مع هذا الإغراء من امرأة العزيز؛ فحاول يوسف عليه السلام أن يهرب من موطن الشهوة، ويجد له منفذًا ينفذ من خلاله، فيلتفت يمينًا وشمالًا، وأمامًا وخلفًا؛ فيرى الباب لعل أن يكون فيه منفذ، وإن كانت امرأة العزيز أحكمت الإغلاق؛ ولكن يبقى لدى العفيف أمل أن يجد له مخرجًا من هذا الابتلاء؛ فيهرول مسرعًا نحوه؛ فتحاول امرأة العزيز في نفس الوقت منعه؛ فتعدو خلفه مسرعةً لتمسك به، وهي لا تزال في هيجانها الهستيري؛ فتشد قميصه من دبره لتمنعه من الوصول للباب ﴿ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ ﴾؛ ولذا يصور القرآن هذا المشهد وكأنه واقعة عين يشاهدها الناظر، وهذا مما امتاز به الأسلوب القصصي القرآني، قال تعالى: ﴿ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 25]؛ أي: “زوجها لدى الباب، فرأى أمرًا شق عليه”[7].
نعم لقد حصلت مفاجأة لم تكن في حسبان امرأة العزيز، وهي في كمال حلتها وجمالها وبهائها وزينتها المبالغ فيها التي لا يعد مثلها إلا لفراش الزوج، ومع ذلك فهي راكضة في هذه الحالة وراء يوسف عليه السلام إلى الباب، وهو يريد الخلاص منها، فيدخل زوجها ويرى المشهد ماثلًا أمامه، وهنا تفيق قليلًا من وَلَه الغرام والتعلُّق بيوسف عليه السلام، وإن كانت عازمة على المضي في إرواء عطشها منه!
فتقول بذكاء ودهاء وضبط للأعصاب فوق ما يتصور: ﴿ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 25] فتستغل ذكاءها ودهاءها بهذه السرعة الفائقة؛ لتوظف الموقف لصالحها، وتبرئ نفسها وتبرئ يوسف عليه السلام من الفعل، مع كل الأمور المحيطة بالحدث التي تشير إلى إدانتها، وبراءة يوسف عليه السلام، بل وتقترح آلية العقوبة التي تضمن لها سلامة من هي عازمة على مراودته!
قال السعدي: “(ولم تقل من فعل بأهلك سوءًا) تبرئة لها، وتبرئة له أيضًا، من الفعل. وإنما النزاع عن الإرادة، المراودة”[8]، ثم ما لبثت أن اقترحت امرأة العزيز العقوبة المناسبة فقالت: ﴿ إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
وفي هذا المشهد المهيب ووقوف عزيز مصر بنفسه، يعلن يوسف عليه السلام براءته من هذه التهمة الباطلة قائلًا: ﴿ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ﴾ [يوسف: 26].
ثم يذكر السياق القرآني أن أحدًا من أهلها تدخَّل ليحسم الموقف بشهادته، قال تعالى: ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 26، 27]، وإذا بالقميص قُدَّ من دبر؛ لأن ذلك يدل على هروبه منها، وأنها هي التي طلبته، فشقت قميصه من هذا الجانب”[9].
فلما ظهرت براءة يوسف عليه السلام بهذه الشهادة القاطعة، ورأى ذلك سيدها- أي: عزيز مصر وهو زوجها- فقال لها بكل برود وضعف غيرة وضعف امتعاض من موقفها المخزي، وهي في هذه الحالة الفاضحة: ﴿ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 28]، ثم يلتفت إلى يوسف عليه السلام البريء الطاهر النقي التقي فيقول له: ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ﴾ [يوسف: 29]؛ أي “اترك الكلام فيه، وتناسه، ولا تذكره لأحد، طلبًا للستر على أهله”[10]، ثم يُوجِّه الخطاب لامرأته قائلًا: ﴿ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾ [يوسف: 29]، فأمر يوسف بالإعراض، وأمرها بالاستغفار”[11]، وانتهى الأمر في ظاهر السياق من قبل الزوج على هذا التوجيه للزوجة بما يتعلق بهذا التصرف الشنيع، بعد ثبوت الدلائل وتضافر القرائن على براءة يوسف عليه السلام، وإدانتها برغبتها بفعل الفاحشة بها!
ثم انتشر خبر امرأة العزيز ومراودته لغلامها يوسف عليه السلام، وهكذا الخبر والسر إذا خرج من صاحبه أو تجاوزه؛ فإنه لا يُكتَم مهما كان الحدث، ومهما كانت التوصيات والتحذيرات، والمشهد في الآيات التالية يدلل على ذلك، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [يوسف: 30]؛ أي: إن الخبر “اشتهر وشاع في البلد، وتحدث به النسوة، فجعلن يلُمْنَها أن يحصل منها هذا الحدث، حيث وجدت منها هذه الحالة التي لا ينبغي أن تحدث منها، وهي حالة تحطُّ قدرها، وتضع مكانتها، وكان هذا القول منهن مكرًا كبارًا، ليس المقصود به مجرد اللوم والقدح؛ وإنما أردْنَ أن يتوصلن بهذا الكلام إلى رؤية يوسف الذي شغف امرأة العزيز حبًّا، لتستثار امرأة العزيز وتريهن إياه ليعذرنها؛ ولهذا سُمي: مكرًا”[12].
قال الله عز وجل على لسان امرأة العزيز لما وصل إليها خبرهن: ﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [يوسف: 31- 32].
وهذه فترة ابتلاءٍ جديدة من حياة يوسف عليه السلام بعد الثبات والخروج من الموقف السابق بالبراءة التي شهد بها شاهد من أهلها، وهذه الفترة لها طابع جديد بعد انتشار خبر امرأة العزيز في البلد، ووصول هذا الخبر إليها شخصيًّا، بأن هؤلاء النسوة يقلْنَ في مجالسهن ذلك الكلام الذي يَلُكْنَه في عرضها، فما كان منها إلا أن بادلت المكر بمكر أشد من مكرهن، فـ﴿ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ﴾ [يوسف: 31]؛ أي: محلًّا مهيَّأً بأنواع الفرش والوسائد، وما يقصد بذلك من المآكل اللذيذة، وكان في جملة ما أتت به وأحضرته في الضيافة طعام يحتاج إلى سكين”[13]، وهنا والنسوة مشتغلون بالضيافة، قالت امرأة العزيز: ﴿ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ﴾ [يوسف: 31]، فماذا حدث بعد خروجه عليهن؟!
نستعرض الخطاب القرآني ونتوقف عنده ولا نتجاوزه؛ فهو أشد بلاغةً وتصويرًا للموقف، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [يوسف: 31].
وهنا تحول الموقف من مراودة فردية من امرأة العزيز إلى موقف جماعي من النسوة، وشعرت امرأة العزيز بالنصر لهذا الإعجاب والذهول والافتتان بيوسف عليه السلام، حيث إنهن قطعن أيديهن، وما شعرن بذلك، وقالوا مقولتهن: ﴿ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [يوسف: 31]!
وهنا قالت امرأة العزيز أمامهن بكل تبجُّح وتفسُّخ، برغبتها الجامحة، وعشقها ليوسف عليه السلام، وعزمها الماضي على تحقيق مآربها الدنيئة منه: وإن لم يفعل ويطاوع ويُلبِّي وينجرَّ وراء تلبية غريزتها الشهوانية؛ ليودع في السجن، ﴿ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [يوسف: 32] ويوسف عليه السلام يستمع إلى خطابها الموجه لهن: ﴿ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [يوسف: 32].
فهنا لهج يوسف عليه السلام بالدعاء الصادق الخالص في الشدة والمحنة إلى الله ضارعًا إليه أن يصرف عنه كيدهن؛ لأنهن جميعًا أصبحن يراودنه، فاستجاب له ربُّه، فصرف عنه كيدهن، فهو يسمع ويرى ويعلم بالصادق فلا يخذله، ومن يعرف الله في الرخاء فإن الله لا يخذله في الشدة؛ قال صلى الله عليه السلام: “من سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء”؛ رواه الترمذي وقال: حديث غريب، وحسَّنه الألباني”[14].
قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [يوسف: 33، 34].
وهكذا ينتصر الإيمان الممثل في شخص يوسف عليه السلام ويعلو على جميع الماديات والشهوات، واختار السجن على أن يعيش شريفًا محافظًا على دينه وخلقه وقيمه ومبادئه، فارتقى عليه السلام إلى أعلى مقامات الفضل والخير والصدق والكمال، ونشر الله له الثناء بين العالمين”[15].
المضامين التربوية المستنبطة من المحور الثاني: طبيعة الحياة التي عاشها يوسف عليه السلام في بيت عزيز مصر إلى أن أُودِع في السجن ظلمًا وبهتانًا، ووعدد آيات هذه الفترة اثنتا عشر آية من الآية 21 إلى الآية 23 من سورة يوسف عليه السلام:
ما يلي:
1- لا مجال للعقل فيما لم يرد فيه نص من الغيبيات الماضية أو المستقبلية إلا ما حدَّده الله عز وجل، وتعرض لذكره في كتابه الكريم، أو تعرضت له السنة النبوية الصحيحة فيما ورد عن رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وما عدا هذين المصدرين فهو مرفوض غير مقبول في تفسير كلام الله الصادق بما لم يثبت صدقه ولا صحته من الروايات والأخبار.
2- الفراسة من الصفات الإنسانية التي يمتلكها من يهبه الله قراءة للملامح العامة لمُحيَّا الإنسان منذ الوهلة الأولى، وهي للمؤمن والكافر على حدٍّ سواء؛ ولذا تحققت فراسة عزيز مصر في نجابة يوسف عليه السلام ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ﴾ [يوسف: 21]، وإن كانت فِراسة المؤمن أدقَّ تحديدًا وأصدق هدفًا.
3- إذا أراد الله أمرًا لشخص ما هَيَّأ له السُّبُل الموصلة إليه، ولو كانت تلك السُّبُل في ظاهرها أنها شَرٌّ لذلك الشخص، فيوسف عليه السلام تعرَّض لمحن عدة، من الجُبِّ إلى الرقِّ إلى السجن، وما تلا ذلك من الابتلاءات المتعددة، وفي نهاية المطاف تحقق ما أراده الله له من التمكين والعلم والتأويل ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21].
4- كثير من الناس يتناسى ويغفل السنن الكونية الربانية؛ ولذا إما أن يتخلى عن العمل الموصل لهذه السنن الربانية الكونية، وإما أنه يعتمد على ذاته وقوته البشرية؛ لمقاومة هذه السنن، وفي نهاية المطاف كلا الفئتين خاسر لا محالة، وأن سنة الله الكونية والربانية نافذة لا محالة؛ ولهذا حاول أخوة يوسف بطبعهم البشري الضعيف، حسدًا من أنفسهم إبعاد يوسف عليه السلام والتخلص منه ومع ذلك كان خلاف ذلك ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾.
5- التفرغ وقلة الارتباطات من الأعمال الدنيوية لمن يحسن استثمار وقته من الأسباب الرئيسة للحصول على الخير الكثير من العلم والمعرفة؛ لذا بعدما ذكر الله إكرام المثوى وحسن الإقامة ليوسف عليه السلام في بيت عزيز مصر، عقب عز وجل بقوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ﴾ [يوسف: 21] إن يوسف عليه السلام بهذا الإكرام وحسن المثوى، وقلة الارتباطات الدنيوية، حصل له ما أراد الله عز وجل من العلم والتأويل، وهذا التفرغ وقلة الارتباطات من الأعمال الدنيوية، هو ما يحتاج إليه من يطلب العلم، ويبحث عنه هنا وهناك، سواء أكان في الدراسات العليا للماجستير والدكتوراه أو البحوث العلمية أو لغيرها مما ينفع الناس، ويعود بالفائدة لذاته ولغيره، وهو ما كنا ننعم به في مرحلة الماجستير، ونحن متفرغون لطلب العلم، وافتقدناه في مرحلة الدكتوراه، فوجدنا شدة العناء وصعوبة الجمع بين الأمرين؛ إلا لمن وفَّقَه الله ومنحه الهِمَّة العالية؛ مما يجعل مرارة العلقم في طريقه حلوًا مصفًّى؛ لأنه يستحضر أنه سالكٌ طريقًا إلى الجنة، وأن الوصول إليه بإذن الله يُنسي صاحبه كل مرارةٍ وعلقمٍ تحسَّاه، وهو يسير في ذلك الطريق.
6- وجوب البعد عن مواطن الشهوات وأسباب الفتن؛ حمايةً للعرض والدين كما فعل يوسف عليه السلام حين راودته امرأة العزيز، وحاول الهروب مع العلم أن كل ما حوله كان موصدًا؛ ولكنه أخذ بالأسباب وحاول التخلص من مواطن الفتن والشهوات ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 26، 27].
7- إن الإخلاص سبب لكل خير في الدنيا والآخرة، وهو شرط لقبول العمل الصالح، فإن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتُغي به وجهه، ومما يعين على تحقيق الإخلاص أن يعلم المرء أن الضر والنفع بيد الله وحده[16]؛ لذا نجَّى الله عز وجل يوسف عليه السلام بهذا الإخلاص، فقال عز وجل: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24].
8- على المربي الحكيم ومن يريد أن يفصل في أمر أو يصدر حكمًا في قضية ما، أن ينظر بعين الكلية وملاحظة جميع ما يقترن بالموضوع الذي يريد أن يبت فيه بقول أو بحكم أو بتوجيه؛ فالقرائن القوية من الحيثيات الشرعية التربوية للوصول إلى الحق، وقصة يوسف عليه السلام فيها ما يشير بوجوب العمل بالقرائن القوية، قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 27]؛ لأنها تريده وهو يفر منها، ويهرب عنها، فقدَّت قميصه من خلفه فتبيَّن لهم أنها هي المراودة في تلك الحال”[17]، وكذلك من العمل بالقرائن وجود الصواع في رَحْل أخي يوسف عليه السلام” وحكمهم عليه بأحكام السرقة لهذه القرينة القوية”[18].
9- إن سيطرة الشهوة على الإنسان، سواء أكان رجلًا أو امرأة، إذا لم يكن له ضابط من الإيمان الداخلي، ومراقبة قلبية لله عز وجل، وإلا فإنها تهوي بصاحبها إلى حضيض الحيوانية، إذا لم تكن هي نفسها الحيوانية ﴿ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179]؛ ولذا صدحت امرأة عزيز مصر أمام المجتمع النسوي بالشهوة عندما وجدت منهن التشجيع والتأييد، والوقوع في حبائل ما هي تشتكي منه من الوَلَه، فقالت لهن عند ذلك، وهي تودع الحياء الفطري عند المرأة العفيفة: ﴿ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [يوسف: 32].
10- إذا فقدت المرأة حياءها تفلتت من قيمها وأخلاقها، ونسيت وضعها ومكانتها، وأصبحت وأمست تركض لاهثةً وراء إرواء شهواتها ونزواتها والله المستعان!
وهذا ما يسعى إليه أعداء الإسلام؛ الوصول بها إلى مرحلة من الهيجان والبحث عن الشهوة؛ لتحقيق مآربهم الدنيئة والشهوانية في القضاء على الأسرة المسلمة من خلال القضاء على المرأة وإشغالها عن أهدافها السامية؛ فضمان استقرار المجتمع وأمنه وتماسُكه ينطلق ابتداءً من تلك المرأة المسلمة الواعية بدورها في بناء المجتمع المسلم؛ لذا أصبح المجتمع النسوي في قصة يوسف عليه السلام كلهن يسعين إلى إرواء شهواتهن، وتخلين عن قيمهن وأخلاقهن ومبادئهن ومكانتهن، ومن هن في الأصل؛ ولذا قال عز وجل على لسان يوسف عليه السلام يجسد هذه الصورة: ﴿ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33].
11- استحضار مراقبة الله سبحانه وتعالى في قلب العبد المؤمن، وإن ألمَّت به من المكاره والابتلاءات والتحديات الظاهرة والمعلنة ما ألمت؛ لهي خير سياج وحافظ له بعد تثبيت الله عز وجل؛ ولذا يوسف عليه السلام في هذه المواطن كلها، وربما كانت أشدها تعرض امرأة العزيز ثم النسوة له بالإغراء بفعل الفاحشة أو السجن والتعذيب، ومع ذلك يعلو على شهوات الدنيا قاطبة، بل يختار ما يكون في الظاهر أن فيه ذلًّا وهوانًا، وحقيقته رفعة وانتصار، قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [يوسف: 33].
12- يجب على المسلم أن يأخذ بجميع الأسباب المانعة والدافعة أو النافعة والجالبة حسب الموقف، ثم يفوِّض أمره لله من قبل ومن بعد لله وحده، ويعتمد الاعتماد الكلي على الله في التثبيت على الخير والصلاح، وفعل ما يحبه ويرضاه، وألا يركن إلى إيمانه وقوته، وخيره وصلاحه؛ فربما يخذل والعياذ بالله؛ ولذا يوسف عليه السلام يختار السجن وما يكون فيه من الذل، ومع ذلك يرفع يديه لله ذليلًا منكسرًا مقرًّا معترفًا أن الحافظ له والمثبت له من الغواية والضلال والانجراف وراء أصحاب الشهوات ليس إيمانه وقوته المجردة، إنما توفيق الله وهديته له؛ فقال: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [يوسف: 33، 34]، وهنا كانت الاستجابة المباشرة له ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾، فالفاء هنا في كلمة “فاستجاب” تفيد التعقيب والترتيب؛ أي: العطف بلا مهلة من الزمن، أو تراخٍ، بل استجابة فورية من الله عز وجل لحفظ يوسف عليه السلام من ذلك الكيد الكبار؛ فما أقرب الله من عباده المتوكلين عليه حقَّ التوكُّل.
13- إن أكثر من يتعرض للبلاء والفتن وينزلق إن لم يكن له هناك تربية أسرية ومجتمعية على القيم والأخلاق والمبادئ الشريفة، هم من يمرُّون بمرحلة الشباب، ومن ثَمَّ فهي مرحلة مهمة في التربية الأسرية والمجتمعية، تحتاج إلى مزيد عناية واهتمام وقرب منهم، وإشغال لهم بما يعود عليهم بالفائدة الدينية والدنيوية؛ ليكونوا أعضاءً صالحين في مجتمعهم، محافظين على قيمهم ومبادئهم، محافظين على ولائهم وانتمائهم لأوطانهم ومجتمعاتهم، ومن يقدم الخير والرعاية لهم؛ ولذا يوسف عليه السلام كان يُمثِّل هذه المرحلة؛ فكان بتربيته وقيمه وأخلاقه ومبادئه وحفظه وولائه خير من يتجاوز هذه المرحلة، قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [يوسف: 22-23] وهكذا التربية الصالحة تكون بإذن الله واقيةً وحاميةً وحافظةً للشباب في الخصوص وللجميع في العموم من الانحراف والانزلاق وراء الشهوات والشبهات، قال الله تعالى على لسان نبي الله يوسف عليه السلام الشاب: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [يوسف: 33، 34].
١4- الأصل أن السجن عقوبة، ومعالجة للمجرمين، ولمن لديهم مخالفة منصوص عليها للوائح والأنظمة التي وضعت لضبط أمن المجتمع واستقراره، ولكن ليس كل من دخل السجن كان دخوله لنقيصة أو عيب أو جرم أحدثه؛ فربما يبتلى به بعض الشرفاء والنبلاء لوشاية كاذبة أو نحو ذلك، ومنهم نبي الله يوسف عليه السلام؛ فقد أُودِع السجن ظلمًا وبُهْتانًا مع وضوح الدلائل والبراهين على براءته مما اتُّهِم به، قال تعالى على لسانهن: ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ [يوسف: 35] والآيَات هنا المقصود بها الأدلة الدالة على براءة يوسف عليه السلام.
وهناك في السجن تبدأ مرحلة جديدة من حياته الكريمة، نعيش مع أحداثها، وبعض المضامين التربوية المستنبطة منها في المحور الثالث بإذن الله، في المقال الثالث المكمِّل لهذا الموضوع، بإذن الله.
أسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم تدبر كتابه، وفهم معاني آياته؛ لنزداد إيمانًا ويقينًا وتطبيقًا وسلوكًا لمضامينه في حياتنا اليومية.
[1] (السعدي، 1408هـ، ج2، ص406).
[2] السابق، ص406 – 407.
[3] السابق، ص407.
[4] البخاري، ج1، رقم الحديث: 660، ص168.
[5] السعدي، 1408هـ، ج2 ص408.
[6] البخاري، 1407هـ، رقم الحديث: 5269، ج7 ص59.
[7] السعدي، 1408هـ، ج2، ص509.
[8] السابق، ص409.
[9] السعدي، 1408هـ، ج2، ص410.
[10] السابق، ص410.
[11] السابق، ص410.
[12] السابق، ص410-411.
[13] السابق، ص411.
[14] الترمذي، ج5، رقم الحديث: 3382، ص462.
[15] السعدي، 1418هـ، ص37.
[16] السعدي، 1418هـ، ص38.
[17] السعدي، 1418هـ، ص39.
[18] السابق، ص39.