التاريخ الإسلامي

يوسف الصديق عليه السلام (4)


يوسف الصديق عليه السلام (4)

 

أشرتُ في الفصل السابق إلى نسيانِ الناجي من صاحبي سجن يوسف عليه السلام ذكرَ شأنِ يوسف للملك، وقد أسند الله عز وجل أمرَ هذا النسيانِ إلى الشيطانِ؛ حيث قال: ﴿ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ﴾ [يوسف: 42].

 

وهذا الأسلوبُ في إسناد الشرِّ إلى الشيطان قد كَرَّرَ الله تبارك وتعالى ذكره في القرآن العظيم؛ حيث قال في قصة أيوب: ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾ [ص: 41]؛ وذلك لأن كلَّ شرٍّ وضير يصيب الإنسان إنما هو بسبب الشيطان الذي أخرج أبوينا من الجنة، وهو من الأدب مع الله عز وجل في إسناد الخير إليه وإسناد الشر إلى الشيطان وإلى النفس الأمَّارة بالسوء؛ مع الاعتقاد الجازم بأن كلَّ شيء بقضاء الله وقدره، وأن الكلَّ من عند الله، ﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 141].

 

وعندما أرادَ اللهُ عز وجل إعلاءَ شأنِ يوسف، وتثبيت كرامته في قلوب ملك مصر وعموم شعبها، رأى الملك في منامه سبعَ بقرات سِمان وسبعَ بقرات هزيلة، وأنَّ السبع البقرات الهزيلة تأكل السبع السمان، كما رأى في منامه سبعَ سُنبلات خضر وسبع سنبلات يابسات، وقد اهتمَّ الملكُ بأمر رؤياه هذه، وطلب من أشراف قومه ومن يظنُّ فيهم المعرفة بتأويلها أن يُؤَوِّلُوها ويعبِّروها له ويفتوه فيما تقتضيه هذه الرؤيا، فقالوا: هذه أخلاط منامات وأضغاث أحلام، وأصل الضغث: قبضةُ الحشيش المختلط الرطب باليابس، أي: هذه رؤيا لا يصحُّ تأويلها لاختلاطها، ونحن غير قادرين على تعبيرها، وغير عارفين بتفسيرها.

 

وعندئذ تذكَّر الناجي مِن صاحبيه في السجن بعد هذه المدة الطويلة، وقال: أنا آتيكم بتفسيرها وتعبيرها من الخبير بذلك يوسف السجين، فأرسِلوني إليه، فأرسلوه إلى يوسف عليه السلام، وبمجرَّد ما عرض عليه الرؤيا سارع إلى تفسيرها، ففسَّر السبعَ البقرات السمان والسبع السنبلات الخضر بسبع سنوات رغيدة مخاصيب، وفسَّر السبعَ البقرات العجاف الهزيلة والسبع السنبلات اليابسة بسبع سنوات مجدبة، ولم يكتفِ بهذا التفسير العظيم لرؤيا الملك؛ بل وضع لهم خطة تجاوز محنة السبع السنوات المجدبة، فقال: تزرعون السبع السنوات مغتنمين فرصةَ رغدها وجَودة محاصيلها دون تضييع شيء من هذه الفرصة، وإذا نضج الزرعُ فلا تدوسوه واتركوه في سنابله إلا بقدر حاجتكم الضرورية من الطعام منه، ولا تتوسَّعُوا في النفقة وادَّخِروا كلَّ ما يمكنكم ادِّخاره في هذه السنوات المخصبة؛ حتى يبقى لكم ما تحتاجون إليه في السنوات السبع المجدبة، وبشَّرهم بأن الله سيغيثهم في أول عام بعد هذه السبع بخير كثيرٍ يغاثُ الناس ويذهب الجدب عنهم، وتعود معاصر الزيت ونحوه إلى عملها كما كانت قبل هذه السنوات.

 

ولا شك في أن ما أشار به يوسف الصدق عليه السلام مِن حفظِ الحبوب في سنابلها لا يزالُ محلَّ إعجاب وتقدير من علماء الزراعة في القديم والحديث؛ لأنَّ بقاء الحبوب في سنابلها أدعى لصيانتها من السوس والفساد وأبقى لها على طول الزمان دون حاجة إلى صوامع أو نحوها، وعندما سمع الملك بهذا التعبير عَظُمَ يوسفُ في قلبه وظهر له أنه في أمسِّ الحاجة إلى قربه؛ فقال: ائتوني به، فلما جاءه الرسولُ وعرَّفه أن الملك يدعوه لتكريمه وإجلالِه لم يسارعْ إلى الخروج من السجن، بل طلبَ من الرسول أن يرجعَ إلى الملك، ويسأله عن خبر النِّسوة اللاتي قَطَّعْنَ أيديهنَّ؛ ليكون ذلك أظهر لبراءته وأعزَّ لمكانته، وقطعًا لألسنة السوء، والله لا تَخفى عليه خافية، وقد ذهب عامَّةُ العلماءِ إلى أنَّ المراد من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((ولو لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ ما لَبِثَ يوسفُ لأجَبْتُ الدَّاعِيَ))؛ أي: لسارعت إلى الخروج من السجن دون تريُّثٍ، ولأجبتُ رسولَ الملك في الحالِ وخرجت من السجن، وعلى أي حال فإن المقصود من هذا الحديث كما أشرتُ في سرد قصة إبراهيم عليه السلام ولوط عليه السلام هو بيان علوِّ منزلة يوسف عليه السلام، لا أنَّه أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ من المتفق عليه عند العقلاء أن تواضُع الرفيع القدر لمن دونه لا يُنزل من قدره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفضل خلق الله قاطبة، فهو خاتم المرسلين وإمام الأنبياء، وهو العالي الدرجات المُشار إليه في قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ [البقرة: 253] فرسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم في المرسلين سماءٌ ما طاولتها سماء.

 

وقد سأل الملكُ النسوةَ اللاتي أُخبر أنهنَّ قطعْنَ أيديهُنَّ: هل رأيتن من يوسف شيئًا يسوء؟ ﴿ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ ﴾ ما رأينا عليه من سوء، ﴿ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ﴾ واتَّضح وبان وانكشف، ﴿ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ﴾، أي: أعترف له بفضله وهو غائب عنِّي، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾، وقالت امرأة العزيز أيضًا: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.

 

وعندما تأكَّد الملكُ أن يوسفَ سُجن ظلمًا، وأنه أحدُ الأمناء الكرام، والعلماء العظام فلم يُطِقِ الملكُ صبرًا، وقال: ﴿ ائْتُونِي بِهِ ﴾؛ ليكون خاصَّتي، فلما جاء يوسف وكلَّمه قال له الملك: ﴿ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ﴾ فأراد يوسف عليه السلام نفعَ البلاد والعباد، فقال للملك: ﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾، فمكَّن الله عز وجل ليوسف في أرض مصر ينزل فيها حيث يشاء حرًّا كريمًا سيدًا مطاعًا من فضل الله عليه وعلى كلِّ محسن، وهذا في الدنيا، ﴿ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يوسف: 57].

 

وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ * وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾؛ “أي: إن إلهي وخالقي وسيدي رب السموات والأرض لا تخفى عليه خافية من كيد النساء ومكرهن الذي أوصلني إلى السجن” ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يوسف: 43 – 57].

 

وقد أوردَ بعضُ المفسرين هنا أحاديث باطلة، وأخبارًا مردودة عاطلة في تفسير بعض هذه الآيات، يَحمي الله تعالى أنبياءه ورسله عن مثل ما روي في هذه التفاسير؛ كمثل ما روي في قوله ﴿ وَهَمَّ بِهَا ﴾ أنه حَلَّ الهِمْيَان، أي: تكة سراويله، وجلس منها مجلس الرجل من زوجته، وهذا ولله الحمد لم يثبتْ بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو قولٌ مدسوس من اليهود وأخبار بني إسرائيل، وصريح الآية علق الهمَّ بها على رؤيته برهان ربه بصيغة الماضي، فكأنه قال: ولولا أنه رأى برهان ربِّه لهمَّ بها، ولكنه لم يهم بها؛ لأنه رأى برهانَ ربِّه، وسياق الآية يكذِّب ما زعموا، كقوله تعالى عنها: ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴾ معطوفًا بالفاء الدالَّة على التعقيب، وأنه بمجرد مراودتها له استعصم، وهذا ظاهر.

 

وكذلك تفسيرهم لقوله: ﴿ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾ بأنه أراد بربه عزيز مصر، وهذا ولله الحمد لم يَثبتْ بخبر صحيح ولا حسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسياق يدلُّ على أن الذي رأى يوسف برهانَه وأحسن مثواه هو رب العالمين.

 

كما زعموا أن قوله: ﴿ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ﴾ من كلام يوسف لامرأة العزيز، وأن جبريلَ قال له: ولا حين هممت بها، أو أن امرأة العزيز قالت له حينئذٍ: ولا حين حللت سراويلك يا يوسف.

 

فهذا كلُّه مفترًى على يوسف الصدِّيق، وقد صانَه الله وعصمه من كلِّ سوء كما عصم إخوانه الأنبياء والمرسلين.

 

﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 – 182].



المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى