غزوة بدر في القرآن الكريم
غزوة بدر في القُرْآن الكريم
أولى معارك الإسلام الخالدة التي وضعت حدًّا لغطرسة قريش، ورفَعت من معنويات المسلمين؛ حيث شفت صدورهم مما فعلت بهم قريش من إيذاء وتنكيل وقهر وصد عن سبيل الله، لقد خرجت قريش بعديدها وخيلها وخيلائها، وفي نيتها استئصال المسلمين والقضاء على الإسلام، وكان هذا ظاهرًا في تصريحات أبي جهل وأضرابه، وكانت قريش تتيه على المسلمين بمالها وجبروتها وسلطانها وعلاقاتها مع القبائل، وتؤثر بهذا على بقية العرب فيهابون منها الدخول في الإسلام، وبعضهم كان ينتظر ما تسفر عنه الحالة بين قريش والمسلمين، فكانت غزوة بدر وانتصار المسلمين فيها تعد قاصمة الظهر لقريش، وفيه اهتزاز لمكانتها أمام العرب، وسقوطها بشكل مهين، كما أدى هذا الانتصار إلى بروز المسلمين كقوة لها وزنها في المنطقة، وتستوجب من الآخرين النظر في هذا الدين، وما أحدثه من قوة في نفوس أتباعه، وتغيير نمط حياتهم إلى الرقي الفكري والعمل وفق قانون الحق والعدل الإلهي.
لقد استأثرت هذه الغزوة بصدر سورة الأنفال، حتى لقد ذكرتها بشيء من التفصيل؛ وذلك للأهمية البالغة لهذه الغزوة، وللرد مستقبلًا على من يقلل من شأن هذه الغزوة، على اعتبار عدد الحشد من الفريقين وعدد القتلى إذا ما قيست بالمعارك التاريخية الكبيرة، ولو علم هؤلاء أن قيمة المعارك ليست بضخامتها وكثرة حشودها، وإنما بما تحدثه من أثر في تغيير مجرى التاريخ، وبما يكون لها من نتائج على المدى البعيد، فالمعارك التي تسقط دولًا أو تبرز دولًا هي المعارك المهمة في التاريخ، أما التي ليست لها نتائج مهمة فإنها تتلاشى، مهما عظمت أو كثر حشدها، ونحن المسلمين لنا آلاف المعارك عبر التاريخ، ولكن البارز منها الذي أحدث تغييرًا في مجرى التاريخ معدود، مثل: اليرموك فتحت باب تقويض دولة الروم في الشام، والقادسية الدولة الفارسية، ووادي لكة، والزلاقة، وحطين، وعين جالوت..
قال تعالى بعد ذكر الأنفال وصفات المؤمنين: ﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [الأنفال: 5 – 8].
القُرْآن كتاب الله، وهو الحق، ولا ينطق إلا بالحق، لقد قدمتُ خبر الغزوة كما ورد في السيرة، والقُرْآن هنا يدخل إلى أغوار القلوب، فيظهر ما خفي منها عن عين الناظر وأذن السامع، أظهر القُرْآن أن فريقًا من المؤمنين كان كارهًا للخروج ولقاء العدو، خصوصًا بعد أن فاتت العير وكانت سهلة المنال؛ لقلة عدد حراسها والمدافعين عنها، وأصبحت المعركة مع جيش يفوقهم عددًا وعدة، والآيات تفسر نفسها بنفسها، ولا يخفى الحال على من تلاها بتمعن ليدرك حالة المسلمين النفسية وما انتابهم من وجل عندما أصبحوا أمام الأمر الواقع، وهو القتال الذي لا بد منه، وكلمة: ﴿ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ ﴾ [الأنفال: 6]؛ أي: في القتال، وقد وعَدكم الله الظفَر بإحدى الطائفتين، العير وحيازتها، أو الظفر في قتال قريش، ولكن كانت قلوبكم مع الأسهل والأكثر مالًا، مع الفوز بالعير، وقد روى أبو أيوب: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن رغبهم في الغنيمة من العير التي عادت من الشام بقيادة أبي سفيان ونفروا معه، ساروا أكثر من يومين، تبين للنبي صلى الله عليه وسلم أن العير قد فاتتهم، وأن قريشًا قد خرجت لقتال المسلمين، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعادوا، فقالوا: ثلاثمائة وثلاثة عشر، فقال: “فسُرَّ بذلك وحمد الله”، وقال: ((عدة أصحاب طالوت))، فقال: ((ما ترون في قتال القوم؛ فإنهم قد أخبروا بمخرجكم؟))، فقلنا: يا رسول الله، لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم، إنما خرجنا للعير، ثم قال: ((ما ترون في قتال القوم؟))، فقلنا مثل ذلك، فقال المقداد – على ما ذكر في السيرة – معنى هذا أنهم كرهوا القتال أولًا، ثم قال الله تعالى: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 9، 10]، وهذه صورة لاستغاثة النبي صلى الله عليه وسلم بربه: ((اللهم إني أنشدك وعدك))، فاستجاب الله لنبيه فأمده بالملائكة، وضرب عليهم النعاس ليستريحوا من العناء، والله حارسهم: ﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 11 – 13]؛ فالله سبحانه وتعالى هيَّأ لهم أسباب النصر من مدد الملائكة، ولن يهزم جيش معه الملائكة، وقد أنزل عليهم المطر بمقدار تحقيق الفائدة منه – التطهر به من أثر الاحتلام الذي أصاب بعضهم أثناء النوم، وبه ذهاب ما بثه الشيطان لما أصابهم، وبهذا أصبحوا ذاكرين الله ومتصلين به، مع تثبيت التراب تحت أقدامهم بهذا الماء – وبث الله الرعب في قلوب المشركين، وأمر الملائكة بتنفيذ أمور مهمة في مساعدة المسلمين، منها: أن يثبِّتوا الذين آمنوا، وأن يساعدوا في ضرب المشركين فوق الأعناق وعلى الأصابع؛ لكيلا تقوى على حمل السلاح، وفي شهود الملائكة بدرًا قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: ((هذا جبريل آخذ برأس فرسه، عليه أداة الحرب))، وعن أنس قال: “كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة من قتلى الناس بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل رسم النار”، وفي سورة “آل عمران” وفي معرض المن على المسلمين بنصرهم في بدر، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران: 123 – 126].
وعَوْدًا إلى سورة “الأنفال”، بعد بيان حال المسلمين النفسية وتقويتها بدعم الملائكة، يخاطبهم عز وجل بالثبات عند لقاء العدو: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ﴾ [الأنفال: 15 – 18]، ثم يصف الله تعالى حال العير قافلة أبي سفيان وكيف حجبت عن المسلمين؛ لأن الله تعالى أراد أن تكون حربًا يُذِلُّ الله فيها قريشًا، ﴿ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 42]، فكانوا قريبًا مِن بعضهم البعض، جيش النبي صلى الله عليه وسلم وقافلة أبي سفيان، ولكن الله تعالى لم يُرِدْ أن يتم هذا اللقاء، لقد فصل بينهم جبل، فحجب بعضهم عن بعض، وسلِمَتِ القافلة، وكان الامتحان للمسلمين بالمواجهة الحربية وشدة البأس؛ لأن أمامهم حياة جهادية طويلة يجب أن يكونوا في تمام الاستعداد لها؛ لأنهم الصفوة المختارة من الذين صمدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة، وهم المهاجرون، والأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدينتهم، وتعهدوا له بالنصرة والمضي معه لتبليغ الدعوة، فهيأ الله أسباب هذه المعركة: ﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [الأنفال: 43]، ففي هذه الرؤيا تشجيعٌ للنبي صلى الله عليه وسلم على الإقدام؛ فقد هون له من شأن قريش، ويبقى الأمر كذلك بالنسبة للمسلمين لكي يبث فيهم الإقدام على المعركة، فكان هذا الأمر عندما صف الفريقان للنزال: ﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [الأنفال: 44]، وهكذا عندما نظر المسلمون إلى جيش قريش لم يرعهم كثرتهم؛ لأن اللهَ تعالى أراهم قلة عددهم، وكذلك عندما نظرت قريش إلى المسلمين رأتهم قلة مقارنة بجيشهم، وهكذا كانت الحرب، ونصَر الله فيها عباده نصرًا مؤزرًا.