محمد وردى يكتب: الرهان والتحديات الأخلاقية الكونية
ثقافة أول اثنين:
إن خطاب” منتدى أبوظبى للسلم”، فى ملتقاه السنوى التاسع، الذى انعقد برئاسة الشيخ عبدالله بن بيه، يستجيب للتحديات الحضارية التى توجه البشرية المعاصرة، وهى تحديات غير مسبوقة، حيث صار العلم والتقدم يشكلان خطراً وجودياً ساحقاً من وجهين: سيطرة العقلانية التقنية على العقلانية النظرية، التى جعلت العقل النظرى خادماُ للعقل العملي، بتعبير روبرت ماركيوز. فأسست عبودية وكأنها واقعية، شوهت روح الإنسان ودفعته إلى التوحش. والوجه الآخر، هو قدرة الإنسان على تدمير الكون. وهكذا بات الخيال عاجزاً مُهاناً، حيث لم يعد يبتكر الأفق الذى يمكن أن يشكل “إمكانية اجتماعية عقلانية واقعية” أو عملية، تتجاوز مولدات هذه المخاطر، كما يؤسس ذلك خطاب المنتدى.
ليس من الصدف، وليس من سوء حظ الإنسان، وإنما هو فى الواقع اختبار أخلاقي؛ من شروط حكمة الخلق، وفلسفة حرية الاختيار. فهو اختبار يمتحن إنسانية الإنسان؛ باعتبار أن “الإشباع” الذى يُعد من أهم أسباب النزاع، يختزل الرغبات البشرية، من حيث أنها فى الجوهر اختيار عقلى مقصود. ولكن؛ قد تكون فى بعض وجوهها عاقلة أو مشروعة؛ إلا أنها فى الغالب الأعم تكون شيطانية؛ وإنْ بتفاوت يختلف؛ بتباين الظروف الثقافية عموماً. فالحروب الدائرة حالياً، بيَّنت “فى أجزاء من العالم أن شياطين الحروب ما تزال كامنة فى النفوس”.
مع الأسف الشديد؛ أن أغلب الناس – فى كل الأزمان وعلى اختلاف الأوطان، وبخاصة فى ظل الحداثة الراهنة – يتنافسون على سحق أرواحهم ذاتياً؛ وراء رغبات تقودهم إلى عبودية طوعية، كما هو الحال فى رغبات التنافس على انتزاع إعجاب المسؤولين والأصدقاء وعموم المحيطين بهم، فهؤلاء على أقل تقدير “يكونون ممتلئين حسداً؛ لأنهم يدركون أن هناك قدراً معيناً من الإعجاب يوزع (فى كل دائرة)، وأن الإعجاب الذى يحظى به شخص؛ قد يفقده شخص آخر. وتنطبق هذه الاعتبارات على كل نوع من أنواع الرِفعة (أو الجاه الاجتماعي). فإذا أردت أن تكون أسمى من أقرانك فى ناحية من هذه النواحي؛ فإنك قد تحقق هدفك عن طريق زيادة ميزاتك أو التقليل من ميزات الآخر. ولكنه من المستحيل منطقياً أن يحظى كل شخص بالرفعة، (…) سواء فى الشهرة أو القوة أو المال أو أى شيء آخر”، كما يقول راسل (أنظر: براتراند راسل – المجتمع البشري، ترجمة عبدالكريم أحمد – ص – 117- منشورات جامعة الدول العربية – الإدارة الثقافية).
ومعلوم أن التقليل من ميزات الآخرين قد يكون بالتفوق عليهم؛ بالمعنى الإبداعى الخلاق، وهو أمر مشروع. ولكن أيضاً؛ قد يكون بالغش والتدليس والدهاء. وفى هذه الحالة يسبب التقليل من ميزات الآخرين؛ الكثير من الألم للمستهدَف، والكثير من الخسة والوضاعة للمستهدِف. ما يعنى أنه فى الحالين، يقتل أسمى ما فى الإنسان، ويدفع بالمرء إلى الحضيض؛ سواء الذى انتزع الإعجاب، أو ذاك الذى اُنتزع منه الإعجاب. والأمر عينه على مستوى الرغبة فى التملك والاستحواذ على المال والقوة والنفوذ أو السلطة، فهناك طرق مشروعة، تؤسس للخير الإنساني. أما تلك غير المشروعة، فتؤسس للدمار الإنسانى من الداخل أى دمار الروح. فضلاً عن أضرار ودمار الآخرين.
وفى هذا السياق لا تختلف الرغبات على مستوى الدول، مما هى عليه فردياً. ذلك لأن التنافس على الإشباع فى سياق تحقيق الرغبات، الذى تتدثر به الدول تحت مقولة “تحقيق مصلحة الأمن القومي”؛ كان ولايزال من أخطر أسباب اندلاع الحروب على مرِّ التاريخ البشري. وربما من أبشع وجوه تنافس الرغبات؛ عندما يكون الهدف هو السيطرة على العقول؛ بواسطة العبقرية الخلاقة، مع التقنيات العالية والذكاء الاصطناعى والخوارزميات الرقمية.. وغيرها من الانفجارات العلمية المتلاحقة بوتائر متسارعة، لم يَعُد بالإمكان السيطرة عليها؛ بل يستحيل ضبطها أو لجمها؛ تحت أى ظرف إنساني، أخلاقى أو عقلاني.
بهذا المعنى؛ ينحو خطاب الشيخ ابن بيه ذاك المنحى العقلانى الإسلامي؛ باعتبار أن هذا النوع من العبودية الحداثية (إذا صح التعبير)، الذى يسعى إليه الإنسان المعاصر بنفسه طوعاً، والذى عالجه هربرت ماركيوز فى كتاب “الإنسان ذو البعد الأحادي”، وغيره من المفكرين، كان سبقهم فى ذلك بنحو أحد عشر قرناً ونيف، عالم الرياضيات الإسلامي، الخوارزمي، حيث سلط عليه الضوء فى ما يمكن أن نسميها “المعادلة الصفرية” الفارهة بمفارقاتها الإنسانية، التى صاغها فى قالب رياضى منطقي، لايخلو من فكاهة لاذعة، تحيل إلى أعطاب الإنسان أو مقاتله الأخلاقية، التى تختزلها رغباته؛ بنزعة الإشباع، وتتصورها ذاته أو نفسه؛ بوعى زائف، وكأنها حاجات ضرورية، وإنما هى فى الحقيقة حاجات وهمية كاذبة. تقول المعادلة الصفرية: “إذا كان الإنسان ذا أخلاق فهو = 1. وإذا كان ذا جمال، فأضف إلى الواحد صفراً، فهو = 10. وإذا كان ذا مال، فأضف صفراً آخر، فهو = 100، وإذا كان ذا حسب ونسب، فأضف صفراً آخر، فهو= 1000. وإذا ذهب العدد واحد وهو الأخلاق، ذهبت قيمة الإنسان، وبقيت الأصفار”. ما يعنى أن فضيلة الأخلاق وحدها هى الخير الحقيقي، وهى وحدها ما يجب على المرء العاقل أن يهدف إليها فى كل ما ينشده؛ لأنها تشكل القيمة الجوهرية للإنسان؛ باعتبار أن الفضيلة هى عمل أو سلوك أخلاقي؛ بمقتضى الأخلاقية المؤسسة على الوجودية الخيرية الأولى؛ من دون ضروريات سببية أو حتميات طبيعية، فهى خيرية رحمانية خالصة طبقاً لمشيئة وصورة الله تعالى المتمثلة فى الخلق الأول. فلا قيمة ذاتية للإنسان من دون الفضيلة؛ سواء من حيث تحقيق الرغبات والإشباع الفردي، أو من حيث مردود الفضيلة الخيرى العام، شأنها فى ذلك شأن قيمة العمل، فهى تختزل قيمة الفرد الذاتية وتجعله فى المكانة التى تليق به؛ من حيث ما يقوم به من عمل؛ يحصد به خيراً خاصاً، وفى الوقت عينه؛ يقدم خيراً عاماً للإنسانية، من حيث استفادة الناس من عمله، مهما اختلفت أو تباينت نتائجه.
وربما هذا من أهم الأسباب التى تجعل الثقة محدودة؛ بإمكانية تحقيق النتائج الأخلاقية المرجوة من نظريات الأخلاق؛ إذا قامت أو جرى العمل عليها؛ بعيداً عن أنظمة تهيئها “إمكانية اجتماعية عقلانية واقعية” أو عملية، يدعو إليها الخطاب من خلال “المقتضيات والشراكات”؛ بالإضافة إلى رأى عام فاعل، فهما يجعلان من مصلحة كل شخص – قدر الإمكان – أن يتصرف طبقاً لما يقتضيه الصالح العام، حينذاك فقط؛ يتأسس مفهوم الخير العام على أكمل وجه فى المجتمع. وهو أمر واقعى وقائم وله أساسات راسخة وقوية فى مختلف تصاريف الحياة الحداثية أو البدائية على السواء، من حيث ارتباط المصالح الفردية بالجمعية فى المعاش الإنسانى على الأقل. ولا يختلف الأمر على المستوى الدولي؛ إذ لا بُدَّ من نُظم قانونية أو مؤسسات دولية، ورأى عام عالمي، يجعل الدولة فاضلة؛ باعتبار أن من مصلحة الدول – دون تمييز بين إمبريالية حداثية متنورة أو هامشية تابعة – أن تتصرف طبقاً لما فيه خير الإنسانية جمعاء. فالتعاون والتكامل يوسع حقل الخير الكونى ويوسع من مردوده؛ بحيث يطال أى فرد فى مختلف المجتمعات الإنسانية. وهو أمر ممكن وله نماذج ناجحة؛ بالتعاون الجمعى فى سياق الخير العام (نسبياً)، ويشكل أسس قوية تدل على مدى نجاعتها أو صحتها، ومثال ذلك، هو الاتحاد الأوروبي.
إذاً؛ المسألة بحاجة إلى نُظُم تتيح “إمكانية اجتماعية عقلانية واقعية” أو عملية، تشكل وسيلة فاعلة؛ حتى تكون الفضيلة حاضرة؛ بصورة أصيلة فى سلوك الأفراد والدول، فهى التى تقوم بتفعيل القواعد الأخلاقية فى المسار الإنساني؛ بمقتضى الفضيلة. وهذا ما يدفع إليه خطاب مولانا الشيخ عبدالله بن بيه؛ من وراء “الشراكات”، التى قطعاً؛ سوف توسع الخير العام أو الخير الكوني.
وهذا يعنى أن الأخلاق كما السياسة؛ إذ يجب أن يكون هدفها إنتاج أكبر قدر من التطابق بين الرغبات الخاصة، أى الإشباع الفردي، وبين الرغبات العامة أى الإشباع العام؛ بحيث تكون التصرفات التى يقوم بها الإنسان مدفوعاً؛ من خلال سعيه إلى تحقيق الإشباع لنفسه، هى عينها – بالقدر الممكن- التصرفات التى تجلب الإشباع للآخرين. “ويعتمد المدى الذى تبلغه هذه المطابقة فى أى مجتمع بذاته على عوامل مختلفة، من بينها ثلاثة تنفرد بأهمية خاصة، وهى (أ) النظام الاجتماعي. (ب) طبيعة الرغبات الفردية. (ج) مقدار تأثير الثناء واللوم. ولعل أهم هذه الثلاثة هو النظام الاجتماعي”، كما يقول براتراند راسل، (أنظر: المرجع السابق – ص 131). ويمكن أن نضيف مقدار المكافأة الاجتماعية؛ باعتبار أن المجتمعات والفرص التى تهيئها للإشباع مختلفة. فالسياسى يمكن أن تجرى مكافأته فى مجتمع مستقر، يسوده النظام؛ بانتخابه زعيماً، ويمنحه نفوذاً وقوة؛ بقدر تصرفاته النافعة فى إطار إشباع رغبات الجماعة. فى حين أن المجتمعات التى تسودها الفوضى والفساد أو كل أشكال اللانظام، يكون النجاح فيها مكافأة على الدهاء والقسوة والعنف والاستبداد، الذى يجعل الجميع فى القطيع خاضعين مستسلمين؛ فى إطار من الخوف، وليس فى رحاب الإشباع. لذلك لا بُدَّ أن تخضع معايير الثناء والإعجاب والمكافأة، إلى ضابطة اجتماعية أخلاقية، تتميز بقدر كبير من الشفافية والعلانية.
وبهذا المعنى يمكن القول: إن الرغبات الفردية التى تحدد السلوك الفردي، يمكن تعديلها إلى حد كبير عن طريق نُظُم أو مؤسسات تتيح “إمكانية اجتماعية عقلانية واقعية” أو عملية، تعالج الجواهر فى الذات الإنسانية، ليس من خلال التربية والقوانين عموماً فحسب، وإنما أيضاً من حيث طبيعة الثقافة السائدة التى ترسى التعاون التفاعلي، وتتيح الفرص أو المكافآت الممكنة وفقاً للمقدرات الإبداعية؛ بحيث يصبح الإشباع الفردى أو الخير الخاص، متطابقاً مع الإشباع الجمعى أو الخير العام إلى أقصى حد ممكن. وهذا يحصل تلقائياً فى المجتمعات المدنية، ولكن فى إطار أوسع وأبعد من الأخلاق، فالحرفى (طبيب، مهندس، تقني، خباز، جزار، حداد.. ألخ) أو الفنان المبدع أو المفكر الموهوب؛ إنما هو يعمل على خدمتى وإسعادى فى إطار الخير العام، من حيث هو يعمل من أجل خيره الشخصى أو إشباعه الذاتي. ما يحتم إيجاد أطر علمية، تجعل هذه النِعَمِ المتبادلة؛ منطلقات عقلية فى إدراك الخير؛ للتأسيس الوجدانى وبناء القواعد الأخلاقية فى النفوس؛ لتوسيع مقتضى الخير العام المتبادل بإنصاف، فهو الذى يضبط معايير التنافس والثناء والإعجاب والمكافآت. كذلك الحال؛ يمكن تعديل رغبات الدول عموماً؛ فى تحقيق مصالحها أو خيرها الخاص وإشباع مصلحتها أو أمنها القومي؛ من خلال تشكيل إطار إنسانى كوني، هيئة أو مؤسسة فاعلة، يمكن أن تجعل رغبات الدول فى الخير الخاص والإشباع الذاتى متطابقة إلى حد بعيد مع رغبات الإنسانية فى الخير العام العالمى أو الإشباع الكوني.
وهكذا يمكن إنجاز المشروع الأخلاقى العقلانى الإنسانوي، المتمثل بتحقيق السلام العالمي، من خلال تحالف الحكماء والعقلاء من الأخلاقيين والسياسيين على حد سواء؛ بغرض إرساء “إمكانية اجتماعية عقلانية واقعية” أو عملية، تهيء الوسيلة؛ ليكون الفرد فاضلاً بالضرورة، من خلال معايير عالية الشفافية والعلانية، تحد من غلواء التنافس اللاأخلاقى أو اللامشروع، وتضبط مغريات الإشباع فى السياقات الأنانية.
كيف يمكن أن نفكر بهذا الأمر، وكيف يكون؟ هذا هو الموضوع الذى يستحق الاهتمام بالمعنى الإنساني، وهو جوهر التحدى فى ما يدعونا إليه خطاب الشيخ الجليل عبدالله بن بيه، فى الملتقى السنوى التاسع لمنتدى أبوظبى للسلم.