Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

يونس بن متى عليه السلام (3)


يونس بن متَّى عليه السلام (3)

 

ذكرْتُ في ختام الفصل السابق معنى قوله تعالى عن يونس عليه السلام من سورة (ن): ﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ ﴾ [القلم: 48]، وقوله تعالى: ﴿ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾ [القلم: 48] ليس داخلًا في حيِّز النَّهي، فإن نداء المكظوم ودعاءه ربَّه محبوبٌ مطلوبٌ، ومعنى ﴿ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾، أي: دعا ربه وهو ممتلئ كربًا وغمًّا؛ حيث قال وهو في بطن الحوت: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]، وقوله تعالى: ﴿ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ﴾ [القلم: 49]؛ أي: لولا أن أدركته رحمة الله وعنايته لطُرح بالأرض الفضاء وهو ملوم، وما دام قد أدركته رحمة الله فقد ألقاه الحوت على الساحل غير ملوم، وكأن الله تبارك وتعالى تفضَّل على يونس عليه السلام فلم يُؤاخذْه باجتهاده في فراق قومه حين ذهب مغاضبًا بلا إذن من ربه، كما تفضَّل على محمد صلى الله عليه وسلم حينما لم يؤاخذه على قبول فدية الأسارى يوم بدر؛ حيث قال: ﴿ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال: 68]، و﴿ لَوْلَا ﴾ حرف امتناع لوجود؛ فقد امتنع جوابها هنا لوجود شرطها، وكلُّ مَنْ لم تدركْه رحمةُ الله مذمومٌ، لكن يونس لم يذم؛ لأنه أدركته رحمة الله.

 

وقوله تعالى: ﴿ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [القلم: 50] زيادةٌ في فضل الله تعالى على يونس عليه السلام، أن الله تعالى اجتباه؛ أي: أعلى درجته في المصطفين الأخيار، وجعله من الكاملين في الصلاح، وقد وردت أحاديثُ كثيرة صحيحة تُشعر بفضل يونس عليه السلام، وتنهى عن تفضيل سيد الأنبياء وشيخ المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم على يونس بن متى، وهي محمولةٌ على أنها من باب تواضعه صلى الله عليه وسلم كما أشرتُ في قصة إبراهيم ولوط ويوسف عليه السلام إلى أن تواضع الرفيع القدر لا يُنزل من قدره، وقد جاء صريح القرآن في تفضيل بعض الأنبياء على بعض؛ حيث يقول الله عز وجل: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ [البقرة: 253]، ولا شك عند أهل العلم في أن أولي العزم من المرسلين أفضل ممن سواهم من الأنبياء والمرسلين، وأن أفضل أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم ثم أبوه إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليهم جميعًا وسلم، غير أنه إذا كان المقام مقام تنازع بين أهل الأديان وسببًا لإثارة الشرِّ وإلحاق الضرر بالمسلمين، فإنه ينبغي الكفُّ عن التفضيل؛ على حد قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 108].

 

فإن الأصنام والأوثان تستحقُّ السبَّ، لكن إذا كان سبُّ الأصنام يُثير عابديها على المسلمين فإنه نُهي عن سبها لذلك.

 

وكذلك التفضيلُ على وجه الفخر أو الحميَّة أو العصبيَّة، وعلى هذا يحمل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في منع تفضيلِه على موسى أو يونس بن متى عليهم جميعًا الصلاة والسلام؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما يهوديٌّ يعرضُ سلعة له، أعطي بها شيئًا كَرِهَه أو لم يَرْضَهُ، قال: لا، والذي اصطفى موسى عليه السلام على البشر، فسمعه رجلٌ من الأنصار فلطَمَ وجهه، قال: تقول والذي اصطفى موسى عليه السلام على البشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أَظْهُرِنَا؟ قال: فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم، إنَّ لي ذمةً وعهدًا، وقال: فلانٌ لطم وجهي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟))، قال: قال يا رسول الله: والذي اصطفى موسى عليه السلام على البشر، وأنت بين أظهرنا، قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عُرِفَ الغضبُ في وجهه ثم قال: ((لا تُفَضِّلُوا بين أنبياء اللهِ؛ فإنه ينفخ في الصور فيُصعق مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض إلا من شاء الله، قال: ثمَّ ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بُعث، أو في أول مَنْ بُعث، فإذا موسى عليه السلام آخذٌ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقته يومَ الطورِ أم بُعث قبلي؟ ولا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس بن متى))، وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن موسى عليه السلام: ((فأكون أولَ من بُعث، فإذا موسى عليه السلام آخذ بالعرشِ، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بُعث قبلي؟)) لا يدلُّ على أن موسى أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ القاعدة عند أهل العلم أن المزيَّةَ لا تنافِي الأفضليَّة؛ أي: إنْ ثَبَتَ لأحد مزيَّةٌ على أحدٍ في جانب من جوانبه لا يدلُّ على أن صاحبَ هذه المزية أفضل من الآخر، ومثال ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أن بلالًا رضي الله عنه يمشي بين يديه في الجنة؛ فقد روى البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر: ((يا بلال، حدثني بِأَرْجَى عملٍ عملتَه في الإسلام؛ فإني سمعت دفَّ نعليك بين يديَّ في الجنة))، قال: ما عملت عملًا أَرْجَى عندي أني لم أتطهَّرْ طهورًا في ساعة ليلٍ أو نهارٍ إلا صلَّيت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أُصلي، وفي لفظ لمسلم: ((فإني سمعت الليلة))، وفي لفظ له بدل ((دف نعليك)) ((خشف نعليك))، والدف: الحركة الخفيفة، والخشف: الحركة الخفيفة أيضًا، فالدف والخشف بمعنى واحد، وقد جاء في رواية الترمذي وابن خزيمة وأحمد من حديث بريدة رضي الله عنه في حديث بلال هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا بلال، بِمَ سبقتني إلى الجنة؟))، ولا يخطرُ على بالِ مسلمٍ أن بلالًا أفضلُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه المزيَّة.

 

ولعلَّ أحدًا يحسب أنه خيرٌ من يونس بن متى عليه السلام عندما يسمع قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ [القلم: 48]، ويجهلُ أنَّ المقصود من هذا الذكر الكريم تنبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم – كما أسلفت – إلى التأسِّي في باب الصبر بأولي العزم دون التأسِّي بمن ليسوا من أولي العزم في هذا الباب، وينسى كذلك أنَّ الله أمر رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالأنبياء والمرسلين بما فيهم يونس عليه السلام في باب الاهتداء إلى الصراط المستقيم كما جاء في سورة الأنعام كما أشرت؛ ولذلك كله حَذَّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من أيِّ خاطر شيطانيٍّ في هذا الأمر، فقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما ينبغي لعبدٍ أن يقولَ: إنِّي خيرٌ من يونس بن متَّى))، ونَسَبُه إلى أَبِيه، وفي لفظ للبخاري من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ينبغي لعبدٍ أنْ يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى))، كما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ينبغي لعبدٍ أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى))، سلام على يونسَ في المرسلين.

 

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى