عتبة بن ربيعة
عتبة بن ربيعة
هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، أبو الوليد: كبير قريش وأحد ساداتها في الجاهليَّة، وجيه من وجهاء مكة، ومن حكماء قريش وزعمائها، كان مُعَظَّمًا في قومه، نافذ القول، خطيبًا مفوَّهًا، موصوفًا بالرأي والفضل والحلم، كان لقبه «العدل»؛ لأنه يعدل كل حلم قريش. وهو جد معاوية بن أبي سفيان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لأُمِّهِ.
كان يُقال: لم يَسُدْ من قريش مُمَلَّق إلا عتبة وأبو طالب؛ فإنَّهما سادا قريشًا بغير مال. وعندما تزوَّج أبو سفيان ابنته هند بنت عتبة بن ربيعة، بعث عتبة بابنه الوليد إلى بني أبي الحقيق، فاستعار منهم الحلي، ورهن الوليد نفسه عند نفرٍ من بني عبد شمس، وذهب بالحلي، ثمَّ فكُّوه وردُّوه إلى أهله في مكَّة المكرَّمة.
ولد عتبة في مكَّة قبل عام الفيل بثلاث سنوات، ونشأ بمكة يتيمًا في حجر حرب بن أُميَّة، وتعلَّم القراءة والكتابة والأنساب وأخبار العرب وتاريخ قريش على يد أفضل المعلمين في تهامة، كما تعلَّم الفروسيَّة وفنون المبارزة، وكان في طليعة الفرسان في حرب الفِجَار، وخاض فيها المعركتين الأخيرتين.
وأوَّل ما عُرِفَ عنه توسُّطه للصُّلْح في حرب الفِجَار (بين هوازن وكنانة) وقد رضي الفريقان بحكمه، وانتهت الحرب على يديه.
وكان عتبة بن ربيعة صديقًا للصحابي سعد بن معاذ -رضي الله عنه- فكان عتبة عندما يذهب إلى يثرب ينزل ضيفًا عند الصحابي سعد بن معاذ -رضي الله عنه- وكان سعد عندما يذهب إلى مكَّة ينزل ضيفًا عند عتبة.
أدرك الإسلام وطغى وتكبَّر عن الدخول فيه، وشهد بَدْرًا مع المشركين، وكان عتبة يتميَّز بطول القامة وقوَّة البنية، ضخم الجثة، عظيم الهامة، طلب خوذة يلبسها يوم “بَدْر” فلم يجد ما يسع هامته، فاعتجر على رأسه بثوبٍ له، وقاتل قتالًا شديدًا، فأحاط به علي بن أبي طالب وحمزة وعبيدة بن الحارث وقتلوه.
روي عن أمية بن الصلت الثقفي قال لأبي سفيان: إني لأجد في الكتب صفة نبي يُبْعَث في بلادنا، وكنت أظن أني هو، وكنت أتحدَّث بذلك، ثم ظهر لي أنه من بني عبد مناف، فنظرت فلم أجد إلا عتبة بن ربيعة إلا وقد تجاوز الأربعين ولم يُوْحَ إليه، فعرفت أنه غيره.
قال أبو سفيان: فلما بُعِثَ محمدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت لأمية، فقال: أما إنه حق فاتبعه، فقال: وما يمنعك أنت؟ قال الحياء من نساء ثقيف أني كنت أخبرهن أني هو، ثم أصير تبعًا لفتى من بني عبد مناف.
قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ [الزخرف: 31]، قيل: هو عتبة بن ربيعة، وكان يلقب بريحانة قبيلة قريش، وقيل: الوليد بن المغيرة بمكة أو عروة بن مسعود الثقفي بالطائف.
ومن حماقات عتبة موقفه مع أبي بكر الصديق وكان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أول خطيب دعا إلى الله عز وجل وإلى رسوله، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين يضربونهم في نواحي المسجد ضربًا شديدًا ووُطِئ أبو بكر، وضُرِبَ ضربًا شديدًا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مَخْصُوفَيْنِ [خَصْف النعل: خَرْزُه، من الخَصْف: الضم والجمع]، ويحرفهما لوجهه، ثم نزا على بطن أبي بكر، وأثر على وجهه حتى ما يعرف أنفه من وجهه، وجاءت بنو تيم تتعادى، فأجلوا المشركين وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكُّون في موته، فتكلَّم آخر النهار، فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وعتبة بن ربيعة هو الذي أوفدته قريش لمفاوضة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمكة، فإن كُفَّار قريش لما أكربهم أمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وغاظهم شأنه تشاوروا في أمره، فقال لهم عتبة: يا معشر قريش، ألا أقوم لمحمد فأُكلِّمه وأعرض عليه أمورًا لعلَّه يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكفُّ عنا، وذلك لما لم يقدروا أن يصلوا إليه بمكروه، فقالوا له: بلى، فقام إليه عتبة.
[وفي رواية الإمام عبد بن حميد في (مسنده) بسنده عن جابر بن عبدالله -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: اجتمعت قريش يومًا، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأتِ هذا الرجل الذي فرَّق جماعتنا، وشتَّتْ أمْرَنا، وعاب ديننا، فليُكلِّمه، ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال له]: “يا بن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرَّقْتَ به جماعتهم؛ فاسمع مني أعرض عليك أمورًا، تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها، فقال له: “قل يا أبا الوليد، أسمع”، قال: يا بن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا؛ وإن كنت تريد به شرفًا، سوَّدْناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به مُلْكًا مَلَّكْناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبرِّئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُدَاوي منه.
حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستمع منه قال: “أقد فرغت يا أبا الوليد؟”، قال: نعم، قال: فاستمع مني، فقال: أفعل.
فقال: ﴿ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ [فصلت: 1 – 7].
فمضى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأها عليه فلما سمعها عتبة أنصت لها، وألقى بيديه خلف ظهره معتمدًا عليها يسمع منه، فلمَّا وصل إلى قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13] أمسك عتبة على فَمِه وناشَدَه الرَّحِم أن يكُفَّ.
ثم عاد إلى قريش قائلًا: والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله، ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.
قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.. قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
وبعد إعراض ثقيف بالطائف عن دعوة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قفل الرسول -عليه الصلاة والسلام- عائدًا إلى مكة، إلى البلد الذي لفظ خيرة أهله، فهاجر بعضهم إلى الحبشة، وأُكْرِه الباقي على معاناة العذاب الواصب، أو الفرار إلى شعب الجبال.
وقال زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فَرَجًا)).
ولا بُدَّ أن أخبار ثقيف قد سبقته إلى قريش؛ ومن ثَمّ رأى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألا يدخل مكة حتى يستوثق لنفسه ودعوته، فبعث إلى “المطعم بن عدي” يعرض عليه أن يجيره حتى يُبلِّغ رسالةَ ربِّه! فقبل “المطعم” واستنهض أبناءه، فحملوا أسلحتهم، ووقفوا عند أركان البيت الحرام، وتسنَّم “المطعم” ناقته، ثم نادى: يا معشر قريش، قد أجرْتُ محمدًا، فلا يَهْجه أحد منكم! فلما انتهى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلم- إلى الكعبة صلَّى ركعتينِ، ثم انصرف إلى بيته، و”مطعم” وأهله يحرسونه بأسلحتهم.
وقيل: إن أبا جهل سأل مطعمًا: أمجير أم متابع [أي مسلم]؟ قال: بل مجيرٌ. قال: قد أجرنا من أجرت!
وحفظ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمطعم هذا الصنيع، فقال يوم أسْرَى بَدْر: (لو كان المطعم حيًّا لتركت له هؤلاء النَّتنى).
كان المطعم -كأبي طالب- على دين أجداده، وكان كذلك مثله في المروءة والنجدة.
وقد أراد أبو جهل أن يتهكَّم بنبي يحتاج إلى جوار، وكأنه يتساءل: لِم لمْ تنزل كوكبة من الملائكة لحفظه؟ ولذلك قال -لما رآه-: هذا نبيُّكم يا بني عبد مناف؟ فرَدَّ عليه عتبة بن ربيعة: وما ينكر أن يكون مِنَّا نبي وملك؟
فلما أخبر رسول الله بسؤال أبي جهل ورد عتبة قال: ((أمَّا أنت يا عتبة فما حميت لله، وإنما حميت لنفسك -وذلك أنه قالها عصبية لا إيمانًا- وأمَّا أنت يا أبا جهل، فوالله لا يأتي عليك غير بعيد حتى تضحك قليلًا وتبكي كثيرًا، وأمَّا أنتم يا معشر قريش، فوالله لا يأتي عليكم غير كثير حتى تدخلوا فيما تنكرون)).
وأخرج ابن مردويه في كتاب التفسير وأبو يعلى الموصلي في مسنده أن عتبة بن ربيعة قال لقريش: وقد علمتم أنَّ محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب.
في غزوة بَدْر في السنة الثانية للهجرة عندما تجمَّع الفريقان للقتال، رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا من المشركين على جملٍ أحمر يسير في قومه، فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- حمزة بن عبدالمطلب -رضي الله عنه- وكان قريبًا من المشركين، عن صاحب الجمل الأحمر، فأجاب حمزة بأنَّه عتبة بن ربيعة، وكان ينهاهم عن القتال.
وفي بداية غزوة بَدْر بدأ القتال بمبارزات فردية حيث تقدَّم عتبة بن ربيعة وابنه الوليد وأخوه شيبة طالبين المبارزة، فانتدب لهم شباب من الأنصار، فرفضوا مبارزتهم، وطلبوا مبارزة بني قومهم، فأمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حمزة وعليًّا وعبيدة بن الحارث بمبارزتهم، وكان أصغرَ المسلمين عليٌّ، وأصغرَ المشركين الوليد بن عتبة، وتمكَّن حمزة من قتل عتبة، ثم قتل عليٌّ شيبة، وأما عبيدة فقد تصدَّى للوليد وجرح كل منهما الآخر، فعاونه حمزة وعلي فقتلوا الوليد، واحتملا عبيدة إلى معسكر المسلمين.
وفي رواية: خرج الصحابي عبيدة بن الحارث -رضي الله عنه- إلى عتبة بن ربيعة لقتاله، والصحابي علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلى الوليد بن عتبة، والصحابي حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- إلى شيبة بن ربيعة، وتجادلوا وتضاربوا، فأمَّا عليٌّ وحمزة؛ فقد قتلا كلًّا من الوليد وشيبة، وكان عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب -رضي الله عنه- أكبرَ القوم؛ فكلُّ واحدٍ من الحارث وعتبة بن ربيعة ضرب ضربتين ثمَّ جاء الصحابيان عليٌّ وحمزة إلى عتبة بن ربيعة وأجهزا عليه وقتلاه.
وروى: الإمام أحمد، ومسلم؛ عن أنس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ترك قتلى بَدْر ثلاثة أيام حتى جيفوا، ثم أتاهم، فقام عليهم، فقال: “يا أمية بن خلف! يا أبا جهل بن هشام! يا عتبة بن ربيعة! يا شيبة بن ربيعة! هل وجدتم ما وعد ربُّكم حقًّا؛ فإني قد وجدتُ ما وعدني ربي حقًّا”.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أقبلت قريش ومعه أصحابه أخبر أصحابه بمصارعهم، وقال: (هذا مصرع عتبة بن ربيعة، وهذا مصرع شيبة بن ربيعة، وهذا مصرع أمية بن خلف، وهذا مصرع أبي جهل بن هشام).
ومن أبناء عتبة الذين أسلموا أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وهو من السابقين إلى الإسلام، وهاجر إلى أرض الحبشة، وإلى المدينة، وكان من فضلاء الصحابة، جمع الله له الشرف والفضل.
كان إسلامه قبل دخول رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، دار الأرقم، ولما هاجر إلى الحبشة عاد منها إلى مكة، فأقام مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى هاجر إلى المدينة، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقتل يوم اليمامة شهيدًا، ولُقِّب بالشهيد ذي الابتسامة، وهو مولى سالم الذي أرضعته زوجته سهلة كبيرًا، وكان سالم أيضًا من سادات المسلمين.
تزوَّج عتبة ثلاث مرات ولم يجمع بين زوجاته، وباقي أبناء عتبة غير أبي حذيفة: الوليد وهو ما يُكنَّى به، وقد قُتِل مشركًا معه في بَدْر، وبقيَّة أبنائه من الصحابة الكِرام، وهم: أبو هاشم [أسلم يوم فتح مكة، وكان زاهدًا بعيدًا عن ملذَّات الدنيا، راويًا لأحاديث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومات في خلافة معاوية] وأم أبان [زوجة طلحة بن عبيدالله أحد العشرة المبشَّرين بالجنة] وهند [زوجة أبي سفيان وأم معاوية -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- شاركت في معركة اليرموك] وفاطمة [زوجة عقيل بن أبي طالب ابن عم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واشتهرت بفصاحتها ومالها الكثير]، وقد أسلموا بعد فتح مكة رضوان الله عليهم.
لقد وهب الله عزَّ وجلَّ عتبة بن ربيعة عقلًا راجحًا يستطيع أن يُميِّز به بين الحقِّ والباطل، ووهبه لسانًا بليغًا يستطيع أن يُحاور به ويُناور، ووهبه مكانةً تجعل الناس يسمعون رأيه، ويَتَّبعون فكره؛ لكنه للأسف الشديد كان مُصابًا بداء خطير نسف كلَّ إمكانيَّاته، وحطَّم كلَّ مواهبه، ألا وهو داء «الإمعية»!
لقد ضعفت شخصيَّة عتبة حتى صار يسير بلا إرادةٍ وراء زعماء آخرين لعلَّهم أقلُّ حكمةٍ منه؛ ولكنَّهم أقوى شخصيَّةً؛ وذلك بصرف النظر عن مسألة الحقِّ والباطل؛ فقد أدرك عتبة حقَّ الإسلام؛ ولكنَّه سار مع باطل مكة، وفَهِمَ معجزة القرآن؛ لكنَّه اتَّبَع تفاهات زعماء قريش، ثُمَّ أطلقها صريحةً واضحةً: “خَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَرَبِ”!… إنَّه يُريد أن ينتظر المعركة بين المسلمين والعرب، فإذا انتصر المسلمون فهو معهم، وإذا انتصر العرب فلا ضير، فسيكون معهم كذلك! وظلَّت فيه هذه الصفة الذميمة إلى آخر أيَّام عمره؛ حيث كان يَنْهَى الجيشَ المكي عن حرب المسلمين في بَدْر، وقد أدرك بحكمته ورجاحة عقله أنَّ المعركة خاسرة؛ لكنَّه في النهاية اتَّبَع الجموع، وأعرض عن الحقِّ، وكانت النتيجة أن قُتِل كافرًا في أُولى لحظات المعركة.
وقد أوضحت رواية البيهقي موقفًا مخزيًا لعتبة حين جاءه أبو جهل يَتَّهمه بترك الوثنيَّة للإسلام، فإذا بعتبة يشرح له بالتفصيل روعة القرآن، وقوَّة حجَّة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ويُؤَكِّد صدقه التامَّ؛ بل يُبدي رعبه من نزول الصاعقة التي حذَّرهم منها محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد كلِّ هذا رأيناه يُقْسِم بالله! على أيِّ شيء أَقْسَمَ؟! لقد أقسم ألَّا يُكَلِّم محمدًا أبدًا!
أَبَعْدَ كلِّ هذا اليقين في صدق الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكون البُعْد عنه؟! ولماذا؟! هل لأنَّ الجموع الكافرة آنذاك أكثر من المسلمين؟ وهل عندما يكثر المسلمون ستترك الوثنيَّة إليهم؟ أيُّ حماقةٍ تلك التي يعيشها هؤلاء الناس!
وكأنَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يتحدَّث عن عتبة بن ربيعة وأمثاله حين قال: ((لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا))؛ [الترمذي، وهو ضعيف وحسنه الألباني موقوفًا على ابن مسعود]، وعندما سُئل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه الإمَّعة قال: «يَجْرِي مَعَ كُلِّ رِيحٍ».
فلْيَحْذَرْ كلُّ عاقل من هذه الخواتيم التعسة؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ وهب الإنسان عقلًا، وهو سائله عنه، وقد يبتليه بتكثير جموع أهل الباطل، فلا يَصُدَّنَّه ذلك عن الحقِّ أبدًا.