Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

محيي الدين القضماني المربِّي الصالح، والعابد الزاهد (PDF)



تحميل ملف الكتاب

محيي الدين القضماني

المربِّي الصالح، والعابد الزاهد[1]

 

هو محيي الدين بن حسن، بن مصطفى، بن خالد، القضماني: معلِّم مربٍّ ومحاضر جامعي، من أهل العلم والدعوة والصلاح، ومن بقايا السلف؛ استقامةً وزهدًا وطاعة.

 

هو محيي الدين بن حسن، بن مصطفى، بن خالد، القضماني: معلِّم مربٍّ ومحاضر جامعي، من أهل العلم والدعوة والصلاح، ومن بقايا السلف؛ استقامةً وزهدًا وطاعة.

 

ولادته ودراسته:

وُلد الأستاذ محيي الدين في دمشق عام 1347هـ/ أيلول 1928م لأبوَين صالحين، ونشأ مع إخوته التسعة في بيت عربيٍّ وبيئة متديِّنة بحيِّ العَمارة العريق.

 

حرَص والدُه الفاضل حسن القضماني (1890- 1953م) رحمه الله، وكان عطَّارًا في العَمارة قربَ جامع السَّادات، على أن يتلقَّى ولدُه العلوم الشرعيَّة، فأدخله الكلِّيةَ الشرعية بزُقاق النقيب في حيِّ العَمارة، وهو في العاشرة من عمره، فحصَّل فيها قِسطًا من علوم الشريعة المطهَّرة إلى جانب العلوم العصرية.

 

وبعد حصوله على الثانوية العامَّة دخل عام 1951م قسم اللغة العربيَّة في كلِّية الآداب بالجامعة السُّورية التي سمِّيت بعد ذلك جامعة دمشق، وبعد أن نال إجازتها وشهادتها في عام 1954م تابع الدراسةَ في كلِّية التربية فحصلَ على دبلوم التربية (أهلية التعليم الثانوي) في عام 1955م.

 

ومن مشاهير زملائه وأصدقائه في كلِّية الآداب: شيخُنا الجليل الفقيه المحدِّث الدكتور محمَّد بن لطفي الصبَّاغ (ت 1439هـ/ 2017م)، وأستاذنا الأديب المحقِّق الدكتور عبد القدُّوس أبو صالح رئيسُ رابطة الأدب الإسلاميِّ العالمية (ت 1443هـ/ 2022م)، والأستاذ الفاضل المترجِم سليم البَرادِعي (ت 1442هـ/ 2021م)، وشيخنا الجغرافيُّ المؤرِّخ محمود شاكر (الحرستاني) (ت 1436هـ/ 2014م).

 

ومن أصدقائه المقرَّبين أيام دراسته الجامعية الأستاذ ياسين عيد الباري (ت 1439هـ/ 2017م) المتخصِّص بالرياضيات والفيزياء، وهو أخو الشيخ بشير عيد الباري مفتي دمشق، والخطَّاط المبدع الشهيد الأستاذ أحمد الباري (ت 1434هـ/ 2013م).

 

وبقيَت صلتُه بزملائه وأصدقائه القُدامى وثيقةً متينةً إلى وفاته، وكم سمعتُ بعضَهم يُثني عليه خيرًا، ويذكر فضائله ومآثره، ولا سيَّما شيخِنا الجليل المربِّي عبد الرحمن الباني (ت 1432هـ/ 2011م)، وشيخيَّ الصبَّاغ وأبو صالح، رحمهم الله تعالى جميعًا.

 

ومن طالبات دُفعتهم الأستاذة مديحة العَنبَري مديرة قُرى الأطفال (SOS) في سورية، زوجةُ أستاذنا الراحل د. شاكر الفحَّام (ت 1429هـ/ 2008م) رئيس مَجمَع اللغة العربية بدمشق، والأديبةُ الوزيرة الدكتورة نجاح العطَّار شقيقةُ الأديب والداعية الكبير عصام العطَّار، وكانت يومئذٍ من الصالحات الداعيات، هداها الله وردَّها سيرتها الأولى، وأحسن ختامنا وختامها.

 

مشايخه وأساتذته:

من مشايخه في الكلِّية الشرعية: الشيخُ المحدِّث محمود ياسين (ت 1367هـ/ 1948م) في مادَّة الحديث، والشيخ الفقيه الشافعي ياسين القُطب (ت 1367هـ/ 1948م) في مادَّة الفقه، والشيخ المقرئ الجامع عبد القادر قويدر العِربيلي الشهير بالشيخ عبدُه صمادية العِربيني (ت 1369هـ/ 1950م) في مادَّة القرآن، والشيخ حسن حَبَنَّكة المَيداني (ت 1398هـ/ 1978م) في مادَّة التفسير، والشيخ المربِّي لطفي الفيُّومي (ت 1411هـ/ 1990م) في مادَّة النحو، وشاعرُ دمشق وغِرِّيدها المِفَنُّ الأستاذ أنور العطَّار (ت 1392هـ/ 1972م) في مادَّة البلاغة، والدكتور جميل سلطان (ت 1399هـ/ 1979م) في مادَّة العَروض، ومن المشايخ الذين لقيهم فيها وأفادَ من صلاحه وسَمْته ولم يتَّلمذ له الشيخ المربِّي صالح الفُرفور (ت 1407هـ/ 1986م)، رحمهم الله أجمعين.

 

ومن أساتذته في كلِّية الآداب: الأستاذ سعيد الأفغاني (ت 1417هـ/ 1997م) في النحو، والدكتور شُكري فيصل (ت 1405هـ/ 1985م) في الأدب، والشيخ محمَّد بهجة البَيطار (ت 1396هـ/ 1976م) في التفسير، والشيخ مصطفى الزَّرقا (ت 1420هـ/ 1999م) في الحديث، والأستاذ عزُّ الدين التَّنُوخي (ت 1386هـ/ 1966م) في البلاغة، والدكتور عمر فرُّوخ (ت 1408هـ/ 1987م) في التاريخ، عليهم رحماتُ الله جميعًا.

 

أعماله وجهوده:

عمل الشيخ في التدريس منذ عام 1956م في إعداديات دمشقَ وثانويَّاتها (منها ابنُ خَلدون، وجُول جَمَّال) وفي دار المعلِّمين الابتدائية، وفي المعهد العربيِّ الإسلامي. ودرَّس سنتين في دُومة من غُوطة دمشق، وفيها عرَفَ الشيخ أحمد الشامي (بُوبِس) المَيداني ثم الدُّومي مفتي الحنابلة (ت 1414هـ/ 1993م) رحمه الله، وابنَه فضيلة الشيخ المربِّي صالح الشامي حفظه الله.

 

أدَّى خدمة العَلَم (الخدمة العسكرية الإلزاميَّة) من منتصف 1957م إلى منتصف 1959م، قضى منها تسعة شهور طالبًا في كلِّية ضُبَّاط الاحتياط بحلب، ثم عُيِّن ضابطًا في كتيبة الحرس الوطنيِّ المكلَّفة حراسةَ الشَّريط الحدوديِّ المُشرِف على الجَوْلان، ينظِّم الدوريَّات و(الكمائن) على الحدود في القُنَيطِرة.

 

أُعير إلى المملكة العربيَّة السعودية أربع سنوات من أواخر عام 1967 إلى أواخر 1971م، درَّس سنةً منها في كلِّية اللغة العربية بالرياض، ثم ثلاثَ سنين في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنوَّرة، موادَّ: النحو، والأدب والخَطابة، ومِن حاضِر العالم الإسلامي، وكان التحاقه بالجامعة الإسلامية في منتصف عام 1388هـ/ شهر أيلول من عام 1968م[2]، والتحق معه بالتدريس يومئذٍ المشايخُ والأساتذة الكرام: العلَّامة تقيُّ الدين الهلالي (ت 1407هـ/ 1987م)، ومحمد محمد بحيري، وإبراهيم السَّلقيني (ت 1432هـ/ 2011م)، وأحمد مختار البزرة (ت 1413هـ/ 1992م)، وعبد العزيز رَباح (ت 1419هـ/ 1998م)، ومحمد أمين لطفي. ومن زملائه فيها أستاذنا محمد سعيد المولوي (ت 1440هـ/ 2019م) رحمهم الله جميعًا.

 

وضربَ بسهم في نشاطات الجامعة وندَواتها العلمية والتربوية، من ذلك مشاركتُه في الندوة الخامسة من الندَوات التربوية، بكلمة عنوانها (التاريخ الإسلاميُّ وأثره في حياة المسلمين) في أواخر عام ١٣٨٩هـ[3].

 

ثم عاد إلى دمشقَ معلِّمًا فيها إلى أواخر عام 1979م، لقيَ فيها كثيرًا من المضايقات بسبب توجُّهه الديني، فاضطُرَّ إلى الخروج من سوريةَ إلى المدينة المنوَّرة من جديد، للتدريس في الجامعة الاسلاميَّة فيها من عام 1980 حتى عام 1990م، وقد درَّس مادَّة: مِن حاضِر العالم الإسلامي، في كلِّيَّتَي اللغة العربية، والحديث الشريف.

 

وعندما انتهت خدمتُه في الجامعة حرَصَ على البقاء في خير جوارٍ وأكرمه، في مدينة المُصطفى عليه أزكى صلوات الله وسلامه، موظَّفًا في مؤسَّسة تجارية خاصَّة لبعض أقرباء زوجته، وبقيَ يعمل فيها إلى قريب وفاته.

 

كتبه ومؤلَّفاته:

كان الشيخ مُقِلًّا في التصنيف والتأليف، لعنايته أكثرَ بالتربية والتوجيه؛ فلم يَصدُر له سوى ثلاثة كتب، كلُّها من منشورات المكتب الإسلاميِّ بدمشق ثم بيروت، لصاحبه شيخنا المجاهد زهير الشَّاويش (ت 1434هـ/ 2013م) رحمه الله تعالى، وهي:

❶ كلماتٌ ومواقفُ، ط2، 1410هـ/ 1989م، في 248 صفحة.

❷ مُصطلحاتٌ إسلاميَّة، ط1، 1410هـ/ 1990م، في 120 صفحة.

❸ قضايا هامَّة في حاضِر العالم الإسلاميِّ، ط2، 1407هـ/ 1987م، في 208 صفحة.

 

ونُشرت له مقالاتٌ وبحوث في بعض المجلَّات، منها: مقالةٌ في مجلَّة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنوَّرة بعنوان: (الغزوُ الفكريُّ وأثره في العالم الإسلامي)[4].

 

ويظهر أثرُ تخصُّصه اللغويِّ والأدبيِّ فيما صنَّف وكتب؛ جمالًا في العبارة، وإحكامًا في الأسلوب، فضلًا عن سَداد المَقصِد، وسلامة المَنهَج؛ بالتزام الكتاب والسنَّة، والرجوع إلى أُمَّات المصادر.

 

وأبان في مقدِّمة كتابه (كلمات ومواقف) أنه مختارات تخيَّرها من مَعين الكتاب والسنَّة والتاريخ الإسلامي، مبوَّبة في موضوعات ذاتِ مضمون تربوي توجيهي. وأن الغرضَ منها تعريفُ المسلمين بحقيقة دينهم، وتقوية صلتهم بربِّهم، وتنمية شعورهم بذاتهم وبأخوَّتهم ووَحدتهم، واعتزازهم بشريعة ربِّهم، وبتاريخهم وقِيَمهم. ثم قال: ولا بدَّ أن تكون التربيةُ المطلوبة مستمدَّةً من الكتاب والسنَّة، وموافقةً لمنهج السلف الصالح في فهمهما والأخذ منهما.

 

وأوضح في مقدِّمة كتابه (مصطلحات إسلامية) أن الإسلام تخيَّر للقِيَم والمفاهيم التي يدعو إليها ألفاظًا عربية واضحةَ الدلالة عليها، تحملُ المعنى الجديدَ ولا تلتبسُ بالمعاني القديمة التي ألِفَها العربُ في جاهليَّتهم. وقد فهم المسلمون الأوَّلون معانيَ المصطلحات الجديدة على وجهها المُراد؛ لقربهم من العربية الأصيلة، وأخذهم عن الوحيين مباشرة.

 

ولكن مع طول العهد وتراخي الزمان، وقعود الناس عن تعلُّم لغتهم، والإقبال على علوم الكتاب والسنَّة، ألحَّت الحاجةُ إلى بيان معاني كثير من المصطلحات التي انحرفَ معناها في أذهان الناس عن مُراد الشارع الحكيم، فكان هذا الكتابُ الذي تغَيَّا تحريرَ طائفة من المصطلحات الإسلامية، وتبرئتها ممَّا رانَ عليها من سقيم الفهم، وانحراف التأويل.

 

واعترف في مقدِّمة كتابه (قضايا هامَّة في حاضر العالم الإسلامي) أن التعرُّضَ للكتابة في هذا الموضوع مَسلكٌ شائك لا يُؤمَنُ فيه العِثار؛ لِما يَجْبَهُ فيه المرءَ من تيَّارات متباينة وآراءٍ متضادَّة، مع شُحِّ المصادر الأصيلة الموثوقة إن لم يكن غيابها. بيدَ أنه لا مَندوحةَ من الخوض في هذا المَسلَك؛ لأن مَن لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم، وكيف يكون الاهتمامُ بشؤونهم إن لم نكن على درايةٍ بواقعهم، وحقيقة حاضرهم؟!

 

ثم قال: ولا بدَّ للأمَّة الجادَّة في إصلاح حالها من أن تواجهَ واقعَها برجولة وعزيمة صادقة، وتقفَ على أخطائها وأمراضها لتعالجَها، ولا تضيقَ بالتحدِّيات والعقبات؛ فبذلك تكون الصحوةُ واليقظة المباركة، ومن خلال الليل البَهِيم يبزُغ الفجر ويطلُع النهار.

 

زواجه وأسرته:

تزوَّج الشيخ عام 1960م السيِّدةَ الدمشقية الفاضلة غادة عربي كاتبي من حيِّ القنَوات بباب الجابية.

 

وله منها ثلاثة أبناء، هم:

محمد حسام: وُلد في دمشق عام 1380هـ/ 1961م، تخرَّج في كلِّية الهندسة الكهربائية بجامعة الملك عبد العزيز بجُدَّة، وعمل سنواتٍ فيها، ثم انتقل إلى الرياض ولا يزال يعمل في مكتب هندسي فيها.

 

ومحمد: وُلد في دمشق عام 1383هـ/ 1964م، تخرَّج في كلِّية الهندسة الميكانيكية بجامعة الملك عبد العزيز، وتوفِّي بدمشق عام 2009م ودُفن فيها.

 

وبلال: وُلد في دمشق عام 1390هـ/ 1970م، تخرَّج في كلِّية علوم الحاسبات بجامعة الملك عبد العزيز، وإقامته وعمله في جُدَّة.

 

وفاته ودفنه:

أَرْخَتِ السِّنون الطويلةُ على الشيخ بظِلالها، وأكبَت زندَه وأوهَت ساعدَه، فبات أسيرَ بيتِه لا يكاد يخرج منه إلا لأمر ضروري. وفي مساء 26/ 5/ 2022م أُصيبَ بجُلطة في الرئة غيَّبته عن الوعي، وأُدخِلَ على إثرها العنايةَ الفائقة في مشفى الملك فهد، لكنَّه لم يلبث أن أفاقَ في اليوم التالي، ثم غادر المشفى بعد خمسة أيام، ليلزم فراشَ المرض في بيته بالمدينة المنوَّرة، حتى شاء الحقُّ سبحانه أن يقبِضَه إليه فجرَ يوم الخميس 17 ربيع الأوَّل 1444هـ يوافقه 13/ 10/ 2022م، عن 97 سنة.

 

وصُلِّيَ عليه عقبَ صلاة المغرب في المسجد النبويِّ الشريف، ودُفنَ في مقبرة البَقِيع. رحمه الله تعالى وغفر لنا وله، وجزاه عمَّا كتب وألَّف وربَّى خيرَ الجزاء، لله ما أخذ ولله ما أعطى وكلُّ شيء عنده بأجل، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.

 

شهادات عارفيه:

رثاه الأستاذُ عمر عُبَيد حَسَنه قائلًا: رحمك الله يا أخي أبا حسام وأكرم مثواك. فلقد كنتَ أُنموذجًا متفرِّدًا في حيائك وتواضُعك وأدبك وعِفَّة لسانك، لم تذكُر أحدًا بسُوء، ولم يذكُرك أحدٌ بسُوء. كنتَ متميِّزًا في صدقك وصداقتك، في وقت كثُرَ فيه أصدقاء العافية.

 

لم تفتِنكَ الدنيا وتستحوِذ عليكَ شهوةُ الزعامة وتفخيم الذات وحبِّ الظُّهور، الذي قصَمَ كثيرًا من الظُّهور، وأنتج زَعامات فاشلة استباحَت الدماء ودمَّرت البلاد وشتَّتَت العباد.

 

عرفتُك زميلًا في التعليم في المعهد العربي الإسلامي بدمشق؛ مربِّيًا بسُلوكك وحُسن تعاملك. كما عرفتُك عن قُربٍ في بيتك، وفي كثيرٍ من المواقف الحرجة والمساومات والإغراءات والترهيب من سُلطات الطُّغيان والاستبداد، فلم يزِدكَ ذلك إلا ثباتًا على الحقِّ ودفاعًا عنه، مهما اشتدَّ الأذى وتعاظمَ الظُّلم.

 

لقد كنتَ صادقًا فيما تؤمنُ به وتسعى جُهدَك لإيصاله إلى الناس بسُلوكك وأدبك الجمِّ. عِشتَ راضيًا مَرضيًّا، أنيسًا مُؤْنسًا، لا تفارقُك الابتسامة، في الشدَّة والرَّخاء، والصحَّة والعافية. فرحمِكَ الله، وتقبَّلك في عباده الصالحين، وعوَّض عنك أهلك وإخوانك وأمَّتك خيرًا. ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. والحمد لله على كلِّ حال، ونعوذ بالله من أحوال أهل النار.

 

وكتب الأستاذ حسان الصَّفدي في تأبينه وبيان فضائله: طبيعيٌّ أن يلقى الإنسانُ في حياته أشخاصًا يملؤون عليه حسَّه ووِجدانه بشخصية آسِرة أو حضور طاغٍ أو قوة استثنائية، ويحصُل لغالب هؤلاء في النفس إعجابٌ أو رهبة، لكنَّها لا تستصحِبُ معها بالضَّرورة الحبَّ والوِداد.

 

أمَّا أن يأسِرَكَ شخصٌ بلينه، ويشدَّك إليه بخَفض جناحه، ويعلِّمَك بصَمْته، ويَهْديَك بابتسامته، ويستخرجَ أحسنَ ما فيك بتشجيعه، ويعلِّمَك الحزمَ في غير غِلظة، والثباتَ من غير غُلوٍّ، والعملَ الدؤوب من غير تفاخر، والإيثارَ من غير مِنَّة، والكرمَ بغير سَرَف، فتلك والله هي العجيبة، و(الدَّانة) التي لا توجد إلا واحدةٌ فريدة بين ملايين اللآلئ بعد طول غَوصٍ وبحث وتنقيب في أعماق الأعماق.

 

ذاك كان هو الرجلَ الذي افتقدناه بالأمس، الأستاذ المربِّي، والشيخ الفاضل، والعالم العامل، والمجاهد التقيَّ النقيَّ الغنيَّ الخفي.

 

ذاك كان الرجلَ الذي كنتُ أجد عنده برودةَ اليقين حين تشتدُّ بي سَوْراتُ الحَمِيَّة، وحرارةَ الإيمان حين تبرُد مني الهمَّة، ونداوةَ الحديث حين تملأ مرارةُ الأحداث القاحلة حلوقَنا.

 

أجلس إليه مريدًا بين يدَي شيخ لا كالشيوخ، فيُنسيني تواضعُه نفسي فأستطرد وهو مُنصِت، وأُرغي وأُزبِد وابتسامتُه تعيد إليَّ التوازنَ الذي كانت تربِّيه فينا أخلاقُه قبل كلماته، وسلوكُه قبل أقواله.

 

ذاك كان أبا حسام، الأستاذَ المربِّيَ المجاهد “محيي الدين قضماني“، الذي انتقلَ إلى جوار ربٍّ كريم، هو أرحمُ به منَّا وأعلم. انتقل الذي حملَ أخلاقَ القرآن وهدايةَ النبوَّة واقعًا بشريًّا نابضًا بالحياة، لكنَّ ذكراه ستبقى حيَّةً في نفوس من أرشدَهم وعلَّمهم وأحبَّهم وأحبُّوه.

 

لا أدري لماذا لم يخطُر ببالي يومًا خلال خمسين سنةً من التتلمذ على عطائه، كيف لم ألتفِت إلى تلك الإشارات معًا ولم أنتبه إليها، فهو رحمه الله (محيي الدين) وقد أحيا الدينَ في قلوب الكثيرين، واختار لولدَيه أن يكونا (حُسامًا) و(بلالًا) فكأنه قد لخَّص سيرته في الاسمين: حسامًا للحقِّ لا يلين، وبلالًا يصدَح بمعاني الخير في أجمل خطاب وأندى عبارة.

 

ولعلَّ هذه كانت وصيَّتَه إلى ذرِّيته من بعده ليحملوها؛ عساها تكون صدقةً جارية له رحمه الله.

 

عظَّم الله أجرَ الأُمَّة وأجرَ أهله وأجرَنا جميعًا، ونتضرَّع إلى مولانا الكريم امتثالًا لهدي المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم (اللهمَّ أجُرنا في مُصابنا وأبدلنا خيرًا).

ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله العليِّ العظيم.

 

وخطَّ في نعيه أخونا الحبيب فضيلةُ الشيخ المحدِّث محمد مُجير الخطيب الحسَني هذه الكلمات: في يوم الخميس السابعَ عشرَ من شهر ربيع الأنور 1444هـ (13 / 10 / 2022م) انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء عالمٌ مجاهد مهاجر مجاور تقيٌّ خفي؛ الأستاذ محيي الدين بن حسن القضماني الدمشقي (مولده 1347هـ).

 

عالم: تدرَّج في مراحل التعلُّم منذ نعومة أظفاره، ثم أدَّى أمانةَ التعليم، وكان من تلامذته كبارٌ ومشاهير.

مجاهد: بلسانه وقلمه، وحُسن تربيته لأجيال في الظروف الحالكة.

 

مهاجر: لقيَ في وطنه تضييقًا واضطهادًا وأذًى، فهاجر بدينه قبل 44 عامًا، وانتقل إلى ديار الحقِّ من دار الهجرة.

 

مجاور: في خير البِقاع لسيِّد الخلق وحبيب الحقِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في المدينة المنوَّرة، وكان حريصًا عند قوَّته على صلاة الفجر والعشاء في مسجد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

تقي: ذو ورعٍ، حييٌّ كريم، عفيفُ اللسان، نقيُّ الألفاظ، طاهر القلب، حسَن الظنِّ من غير غفلة.

 

خفي: لا يحبُّ الشُّهرة ولا يسعى إليها، متواضعٌ لا تَغرُّه الدنيا، وقد كان من تلاميذه من ملؤوا الدنيا في بعض أوقاتهم.

 

رحم الله الأستاذ أبا حسام وغفر له، وكتب له أجرَ صبره وهجرته، وعظَّم الله أجرَ أسرته وذويه، وعوَّض الأمَّة خيرًا، وجعله في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.

♦♦♦♦♦

كتبها

الشيخ محيي الدين القضماني في شبابه وشيخوخته

 

الشيخ محيي الدين القضماني في داره بالمدينة المنوَّرة

ومعه كاتب الترجمة، بتاريخ 28 من جُمادى الأولى 1434هـ

 

إهداء بخطِّ الشيخ إلى كاتب الترجمة

 


[1] كنت طلبتُ إلى شيخنا الفاضل عليه رحماتُ الله أن يتكرَّم بإفادتي بترجمته، فكان التواضعُ وإنكار الذات يحمِلانه على دوام الاعتذار، وبعد إلحاح منِّي تفضَّل مشكورًا بكتابة سيرة ذاتية موجَزة في صفحة واحدة، أفدتُّ منها في كتابة هذه الترجمة، مع مشافهته وسؤاله، ومشافهة ولده الحبيب الأخ الأستاذ محمد حسام القضماني، جزاه الله خيرًا وشكرَ له.

[2] انظر خبرَ وصوله للتدريس في الجامعة، مع زملائه الأساتذة المذكورين، في العدد الثاني من (مجلَّة الجامعة الإسلامية) 1388هـ، ص 318.

[3] انظر خبرَها في العدد السابع من (مجلَّة الجامعة الإسلامية) 1389هـ، ص 298.

[4] نُشرت في العدد الثاني من (مجلَّة الجامعة الإسلامية) 1388هـ، ص 187- 196.



المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى