الفيلسوف سلافوى جيجيك يرثي حال البشرية: مهددة بالفوضى الشاملة
ثقافة أول اثنين:
من أشهر أقوال ماو تسي تونج ( مؤسس جمهورية الصين الشعبية)، أن “الوضع العالمي ممتاز، ما دامت فوضى كثيرة تسود تحت السماء”.
ولعل ما قصده ماو هنا أنه عندما يتفكك النظام الاجتماعي القائم تتيح الفوضى التي تلي ذلك للقوى الثورية فرصة سانحة للتحرك بحزم والاستيلاء على السلطة السياسية.
لكن ألا تزال هذه الفوضى تجعل الوضع ممتازاً أم أن أخطار التدمير الذاتي باتت مرتفعة للغاية؟ هل أثبتت سيرورات التاريخ أو قوانين التطور الاجتماعي مقولة ماو، ورهانه على التحول الثوري للمجتمع من خلال الفوضى، أم أن الفوضى العالمية الراهنة تنذر باتجاه عالمنا نحو الدمار بيئياً واقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً؟.
على خلفية هذه الأسئلة المربكة، يطرح الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك في “فلسفة الفوضى، هل ينقذ الدمار البشرية؟” ترجمة عماد شيحة (دار الساقي 2022) في عرض للصحافي كرم حلو في “الإندبندنت عربية”، رؤية جذرية للتحديات التي تواجهها البشرية، من الاحتباس الحراري وحرائق الغابات ثم اللاجئين والتحكم الرقمي والتلاعبات الوراثية الحيوية إلى الانقسامات الأيديولوجية الحادة بين اليمين المتطرف والمؤسسات الديمقراطية الليبرالية، وتضاؤل الفضاءات المشتركة… كل هذا، في وقت تحتاج فيه أكثر من أي وقت مضى إلى التضامن العالمي والتعاون الدولي، فلا بد إذاً من تغييرات جذرية من أجل بقائنا على قيد الحياة، تغييرات تتطلب في الأقل إعادة تنظيم عالمية لمجتمعاتنا، وإجراء تغيير حتى في أعماق مشاعرنا ومواقفنا، إذ إننا اليوم إزاء تحديات مصيرية.
على الصعيد البيئي باتت الأزمة البيئية من الأزمات المركزية اليوم، وأصبحت الأخطار التي تشكلها تهدد ديمومة الكائنات الحية على الأرض. فبإحراقنا المتعمد للغابات – عام 2020 اندلع أربعة آلاف حريق في البرازيل – وباستغلالنا المفرط للموارد الطبيعية نقتل رئات كوكبنا الأرضي ونسرع ما يبدو أنه مسيرتنا المحتومة نحو الانتحار الجماعي، بينما الدرس الذي تفرضه علينا البيئة هو محدوديتنا، باعتبارنا مجرد نوع واحد على كوكب الأرض مندمج بمحيط حيوي يتجاوز آفاقنا تجاوزاً هائلاً، وعلينا، وفقاً لذلك، معاملة أرضنا باحترام بوصفها أمراً مقدساً، وأن نثق بها لا أن نهيمن عليها.
وإن كنا لا نستطيع اكتساب سيادة كلية على محيطنا الحيوي، فإن في مقدورنا إخراجه عن مساره والإخلال بتوازنه ليخرج عن طوره ويزيلنا من الوجود. إن الجنس البشري، في رأي المؤلف، يواجه مفترق طرق أكثر من أي وقت مضى، يفضي الأول إلى اليأس والقنوط والآخر إلى الفناء التام، فلنتحل بالحكمة لاختيار ما هو صائب وإعادة تموضعنا في هذا الكون، فقد ذكرتنا جائحة كورونا أننا جزء من الطبيعة ولسنا مركزها، وأن علينا أن نغير طريقة عيشنا بالحد من فردانيتنا وتطوير أشكال جديدة من التضامن وقبول مكاننا المتواضع على الأرض، بل لا بد أن يكون للماء والهواء حياة لا تتمحور حولنا.
على المستوى السياسي يتناول جيجيك مسألة الفقر واللجوء من منظور أيديولوجي، فالحل الحقيقي الوحيد عنده يكمن في تغيير النظام الاقتصادي العالمي الذي ينتج المهاجرين، وتحليل تناقضات هذا النظام الجوهرية.
فعندما يقول المحافظون في الغرب إنه ينبغي علينا مد يد العون إلى اللاجئين من دون الإخلال بـ”رفاهيتنا التي اكتسبت بشق الأنفس”، مما حض المؤلف على هذا القول، إذ لا يكفي “كي يحب المرء جيرانه حقاً في محنتهم أن يتصدق عليهم بسخاء من موائد الأغنياء، بل أن يزيل الظروف التي تسبب محنتهم”.
وإذ يرفض مناهضو الهجرة مسؤولية الغرب تجاه فقراء العالم الثالث، ويذهبون إلى أنه ينبغي لدوله ألا تهتم إلا برفاهية مواطنيها والحفاظ على نمط حياتهم، يرى المؤلف أن “التغيير الاقتصادي الاجتماعي الجذري هو الوحيد القادر فعلاً على حماية هويتنا ونمط حياتنا” وأنه “ليس في وسع أي مساعدة إنسانية أن تجد حلاً للتوتر الناجم عن مشكلة اللجوء إلا بإعادة هيكلة الصرح الدولي بأسره، كما أنه لا حل لمشكلة الفقر بـ(إبقاء الفقراء على قيد الحياة) بالتصدق عليهم بسخاء من منظور إنسانوي مجرد، لأن ذلك ليس حلاً بل مفاقمة للمشكلة، فالهدف الصحيح يتمثل في إعادة بناء المجتمع على أساس أن الفقر سيكون مستحيلاً”.
هذه الأهداف الكبرى يجب أن تضطلع بها قوة عالمية تستلهم قيم ومبادئ فكر التنوير الأوروبي – الحداثة العلمانية وحقوق الإنسان والحريات والتضامن الاجتماعي والعدالة والنسوية – الإرث الأوروبي هو المؤهل للاضطلاع بها، وهو وحده يوفر الأدوات النقدية المثلى لتحليل ما حدث ويحدث من خطايا وأخطاء، لكن أوروبا آخذة في الانحدار وتتعرض لأقوى الهجمات من شعبوية اليمين الجديد التي لا تستهدف إرثها العنصري المحافظ، بل إرثها التحرري والتنويري الذي به تظل اسماً من الأسماء التي ترمز إلى ما يمثله الكفاح في سبيل التحرر، فيما أمريكا خسرت قيادتها الأخلاقية وصدقيتها، وبينما صاغ جورج كينان في مستهل الحرب الباردة في عام 1948 أيديولوجيته العنصرية باعترافه أن أمريكا تمتلك نصف ثروة العالم، في حين أن سكانها في حدود ستة في المئة من سكان العالم، وأنه يجب التوقف عن التفكير في حقوق الإنسان والإبقاء على حالة التباين هذه، عاد دونالد ترامب إلى استعادة تلك الأيديولوجية بعبارة “أمريكا أولاً” وتبنت إدارته، خلافاً لما تعهدت به، من وضع حد للحروب، إلى تبني أسلحة فتاكة تستهدف المدنيين تحرمها 160 دولة.
هل يكون العنف هو المخرج المتاح للخروج من النفق الذي حشر فيه عالمنا المعاصر والذي رأى ماو في فوضاه وأزماته وضعاً ممتازاً؟.
يرى المؤلف أن حل الأزمة العالمية الراهنة لا يكمن في ضرب من ضروب ديمقراطية أكثر شمولاً للأقليات كافة، ولا في سيطرة مجتمع مدني منظم يهيمن على الدولة ويستبدلها، ولا بالعنف الذي لا يعد عاملاً ثورياً بل رجعي، ولن يكون السبب الذي يغير مجتمعاً ما.
وما قول ماو إن “إن السلطة تخرج من فوهة البندقية” سوى تحريف لرأي كارل ماركس الذي شبه الانفجارات العنفية بآلام المخاض التي تسبق الولادة لكنها لا تتسبب بها.
إلا أن انتقالاً ديمقراطياً سلمياً للسلطة لا يمكن أن يحدث من دون آلام مخاض العنف عندما تغلق قواعد الإجراءات الديمقراطية، وفي هذا الانتقال الديمقراطي السلمي ربما يكون المؤلف قد وجد ضالته، لكن التحليل الملموس للوضع العياني كما خلص هو اليوم أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، وليس في إمكان صيغة شاملة تقديم الإجابة، فثمة لحظات تكون فيها الحاجة ماسة إلى تدابير تدريجية معتدلة، وثمة لحظات تكون فيها المواجهة الجذرية السبيل الوحيد.
إلا أن ما ينتظرنا إن أخفقنا هو مجتمعات تعيش ظروفاً استثنائية دائمة وقلاقل أهلية.