مواقف من إعارة الكتب

مواقف من إعارة الكتب
كان القدماء من أهل العلم ومحبي المعرفة يقضون أوقاتًا ماتعة مع الكتب والأسفار، ويحرصون على ذلك؛ فكان بعض السلاطين والملوك يحملون الكتب عبر قوافل الجمال في سفرهم؛ لتُقرَأ عليهم أثناء الطريق، وقد نُقِل عن الجاحظ أنه كان يكتري دكاكين الوراقين ليبيت مع الكتب، وورد عن المأمون أنه كان ينام والدفاتر حول فراشه، ينظر فيها ويسامرها متى انتبه من نومه.
سهري لتنقيح العلوم ألذُّ لي
من وصلِ غَانِيَةٍ وطِيبِ عناقِ
![]() ![]() ![]() |
وكان اهتمامهم وعنايتهم بالكتاب وشؤونه يصل إلى درجة العشق والغرام؛ فلم يُغفِلوا جانبًا من جوانبه؛ بما فيه إعارة الكتب التي سأتطرق إلى مواقف منها في هذا المقال إن شاء الله تعالى.
أشار بدر الدين ابن جماعة في كتابه (تذكرة السامع والمتكلم) إلى بعض الآداب التي ينبغي مراعاتها عند إعارة الكتب؛ منها: الحفاظ على الكتاب، وعدم التحشية عليه في بياض فواتحه أو خواتمه، أو إعارته شخصًا آخر، أو إطالة مقامه عنده من غير حاجة.
كما ذكر شروطًا ربما يبدو بعضها غريبًا في هذا العصر؛ كقوله: “ولا ينسخ منه بغير إذن صاحبه”، و”إذا نسخ من الكتاب أو طالعه، فلا يضعه على الأرض مفروشًا منشورًا، بل يجعله بين كتابين أو شيئين”، هذا في الوقت الذي كانت الكتب فيه تُنسَخ بخط اليد؛ فتتطلب وقتًا طويلًا وجهدًا كبيرًا.
يذكر الأديب الأريب علي الطنطاوي في كتابه (في سبيل الإصلاح) معاناته مع مستعيري الكتب الذين تركوا في قلبه غصصًا، فيقول: إن بعضهم كان يتثاقل عن رد الكتاب، أو يرده مخلوع الجلد ممزق الأوصال، ومنهم من يعلق على هامش الكتاب بالحبر الصيني الذي لا يُمحى ولا يُكشط، ويُذيِّلها باسمه الكريم.
وعلى الصعيد الشخصي استعار مني أحد الأكارم المجلد الأول من كتاب (إعلام الموقعين) زمن طلبي العلم، تلك الفترة الذهبية التي يعتبر الطالب فيها الكتاب رأس ماله للقراءة فيه، وفوجئت بسفره إلى بلده مع الكتاب، وآخر استعار مني كتابًا جميلًا، ولم يرجعه إلا بعد الإلحاح والمراجعات، وكانت المفاجأة أن وجدت الكتاب مليئًا بأسماء الأشخاص والشركات وأرقام الهواتف.
أجود بجلِّ مالي لا أبالي
![]() وأبخل عند مسألة الكتابِ
![]() وذلك أنني أفنيتُ فيه
![]() عزيزَ العمر أيام الشبابِ
![]() |
ومن المواقف أنني وجدت المجلد الثاني من كتاب (الأعلام) للزركلي على وجه الصدفة في أحد أسواق الكتب، فاشتريته على أمل أن يلحق بإخوانه من المجلدات الأخرى، وفي يوم من الأيام وأنا أبحث في مكتبة الجامع الذي أصلي فيه؛ وإذا بي أجد كتاب الأعلام كاملًا ما عدا المجلد الثاني، والغريب في الأمر أن المجلدات كلها كانت مختومة بختم شخصي، وهو نفس الختم الموجود على المجلد الذي اشتريته، فأرجعت المجلد إلى مكتبة الجامع، وبذلك اكتمل عقده، ووصلت إلى نتيجة أن أحد الأشخاص استعاره ونسِيَهُ عنده حتى وصل إلى السوق.
ومن أظرف ما يُحكى في الإعارة ما ورد في كتاب (اختصار القدح المعلى، لابن سعيد) أن أبا بكر عتيق بن أحمد بن ميسرة الفرغليطي استعار من أبي العباس بن بقي – مشرف إشبيلية – كتابًا، وجال في خاطره ليلة أن يذم الرجل، فسوَّد ذلك في ورقة، فكان من ذلك: “والعجب من هذا المشرف المسرف، الخائن الحائن، أنه يدَّعي الانتهاض في شغل السلطان والأمانة، ومرتبه في الشهر عشرون دينارًا، ولقد أعطاني ذات مرة ثلاثين دينارًا، فمن أين تلك العشرة؟ وما أنفق في ذلك الشهر؟”.
ثم أخذ في ذمه، وذكر وخيم منشئه، وكيف تدرج إلى أن ولِيَ الأعمال، وداس رقاب الرجال.
ثم نسي تلك الورقة بين ورق الكتاب المستعار، ورده إلى أبي العباس، فوجدها وقرأ ما فيها، وكاد يخرج من عقله من شدة الحنق، ثم استدعاه، وأوقفه عليها وأنبه.
وقال له: “الأيمان تلزمني لا خرجت من الحبس حتى لا يبقى عليك مما أعطيتك درهم واحد، فما خرج من حبسه حتى قبض منه ثلاثين دينارًا”.
شمعة أخيرة:
نقل الخطيب البغدادي بعض أقوال أهل العلم بشأن استعارة الكتب؛ منها:
“ليس من أهل العلم من أضاع كتاب علم.
الكتاب أمانة، وهو حقيق بالصيانة.
أكرم الله من أكرمك، وردك كما تسلمك”؛ [تقييد العلم: 191-192].