نكبات أصابت الأمة الإسلامية وبشائر العودة: سقوط بغداد 656 هـ
نكبات أصابت الأمة الإسلامية وبشائر العودة
(سقوط بغداد 656 هـ)
نعيش مع نكبة أصابت الأمة، وكيف خرجت منها، ومن هو القائد الذي صحح المسار؛ فالأحداث التي تمرُّ بها أمُّتُنا في وقتنا هذا تكاد تكونمتطابقة مع الأحداث التي مرت بها في القرن السابع الهجري.
ظهور قوة ثالثة في الأرض:
ظهرت قوة التتار قوةً ثالثة في الأرض في أوائل القرن السابع الهجري سنة 603 ه/ 1206 م بعدما كان الصراع منحصرًا بين قوتَيِ المسلمين والصلبيين، وكان ظهورها الأول في (منغوليا) شمال الصين، وكان أول زعمائها هو جنكيزخان.
بدأ جنكيزخان في التوسع تدريجيًّا في مملكته، وسرعان ما اتسعت حتى بلغت حدودها من كوريا شرقًا إلى حدود الدولة الخوارزمية الإسلامية غربًا، ومن سهول سيبريا شمالًا إلى بحر الصين جنوبًا؛ أي: إنها كانت تضم من دول العالم حاليًّا: الصين، ومنغوليا، وفيتنام، وكوريا، وتايلاند، وأجزاء من سيبيريا، ثم بدأ يفكر جديًّا في غزو بلاد المسلمين، وإسقاط الخلافة العباسية، ودخول بغداد.
ديانة التتار:
سَنَّ جنكيزخان لقومه اليسق يتحاكمون إليه؛ وهو خليط من شرائع العبادات السابقة، وقال لهم: (أصنعه لكم شرعةً ومنهاجًا تتبعونه وتلتزمون بالعمل به أبدَ الدهر)[1].
ولا شك أن هذا يتبع ملة الكفر؛ كما جاء في فتوى ابن تيمية702ه: “إذا رأيتموني من ذلك الجانب – يعني الذي فيه المغول – وعلى رأسي مصحف فاقتلوني”[2]، لما كان يجزم به من كفرهم وظلمهم.
الهجمة التترية الأولى:
بدأ الإعصار التتري الرهيب على بلاد المسلمين بالهجمة التترية الأولى على الدولة الخوارزمية دولة خوارزم شاه، التي كانت على حدود دولة التتر من جهة الغرب، وكانت تضم بين طياتها عدة أقاليم إسلامية مهمة؛ مثل: أوزبكستان، والتركمنستان، وكازاخستان، وطاجكستان، وباكستان، وأفغانستان، وتُعرَف في الماضي ببلاد تركستان الكبرى (بلاد ما وراء النهر)، وبلاد السند، فتحها المسلمون العرب نهاية القرن الأول الهجري، جهز جنكيزخان جيشه وأسرع في اختراق إقليم كازاخستان، ووصل في تقدمه إلى مدينة بخارى المسلمة (في أوزبكستان الآن)، وحاصر جنكيزخان البلدة المسلمة سنة 617 ه/ 1219 م، “فقتلوا أكثر أهلها، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا معهن الفواحش بحضرة أهليهن، ثم ألقَتِ التتار النارَ في دُورِ بخارى ومدارسها ومساجدها، فاحترقت حتى صارت خاوية على عروشها“[3].
وكتب ابن الأثير ينعى الإسلام والمسلمين: “لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة؛ استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدمَ، إلى الآن، لم يُبتلوا بمثلها، لكان صادقًا، فإن قومًا خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر (بتركستان الشرقية المحتلة حاليًّا)، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر في سنة 617 ه؛ مثل: سمرقند وبخارى، فيملكونها، ثم خراسان، فيَفْرَغون منها ملكًا، وتخريبًا، وقتلًا، ونهبًا، ثم إلى الري وهمذان) مدن إيرانية)، ثم يقصدون بلاد أذربيجان وأرانية، ويخربونها، ويقتلون أكثر أهلها، ولم ينجُ إلا الشريد النادر في أقل من سنة، هذا ما لم يُسمَع بمثله)[4].
دبَّتِ الهزيمة النفسية الرهيبة في قلوب المسلمين، فما استطاعوا أن يحملوا سيفًا، ولا أن يركبوا خيلًا، ويصور ابن الأثير هذه الهزيمة: “حينما مَلَكَ التتر مدينة مراغة من أذربيجان (في إيران( 618هـ، سمعت من أهلها أن رجلًا من التتر دخل دربًا فيه مائة رجل، فما زال يقتلهم واحدًا واحدًا حتى أفناهم، ولم يمد أحد يده إليه، ووُضِعَتِ الذلة على الناس، فلا يدفعون عن نفوسهم قليلًا ولا كثيرًا، نعوذ بالله من الخِذلان، ووصل الخذلان أن يأمر التتريُّ المسلمَ: ضَعْ رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفًا وقتله به”[5].
حال المسلمين قبل دخول التتار بغدادَ:
رغم تحرر المسجد الأقصى من أيدي الصليبيين في صفر 642ه بقيادة نجم الدين أيوب، وانتصار المسلمين على الصليبيين في معركة المنصورة 647ه، لكن للأسف وضع الأمة الإسلامية كان يتسم بالضعف والفرقة والنزاع على السلطة.
إنذار التتار للخليفة 655 ه:
ويذكر المقريزي أن “هولاكو قصد بغداد، وبعث يطلب الضيافة من الخليفة، فكثر الارتجاف ببغداد، وخرج الناس منها إلى الأقطار، ونزل هولاكو تجاه دار الخلافة، ومَلَكَ ظاهر بغداد، وقتل من الناس عالمًا كبيرًا”[6]، ولم يعد الخليفة العُدَّة لحماية دار الخلافة من هجمات التتار.
القتال بين الأيوبيين ومماليك مصر:
حاول الأمراء الأيوبيون انتزاعَ ملك مصر من المماليك، وفي كل مرة ينكسرون منهزمين، الأمير سيف الدين قطز يهزم الملك المغيث عمر الأيوبي صاحب الكرك، الذي خرج ومعه المماليك البحرية لأخذ مصر 655ه، ويلتقي مع الملك الناصر يوسف الأيوبي الذي خرج من دمشق ومعه المماليك البحرية لأخذ مصر مطلع سنة 656ه بالعباسة، فولى الملك الناصر منهزمًا جهة الشام، والتتار على أبواب بغداد.
حال الخلافة الإسلامية:
الخلافة العباسية ليست خلافة حقيقية فقد أصابها الوهن؛ فقد كانت مصر والشام والحجاز واليمن في أوائل القرن السابع الهجري في أيدي الأيوبيين أحفاد صلاح الدين الأيوبي، وبينهما قتال ونزاع على السلطة،وكانت الخلافة في بغداد في صراع مع الدولة الخوارزمية التي كانت تضم معظم البلاد الإسلامية في قارة آسيا، بقيادة جلال الدين بن خوارزم، الذي حاصر البصرة بعسكره سنة 622هـ لمدة شهرين، ووصل إلى بعقوبة على بعد خمسين كيلومترًا من بغداد.
سقوط بغداد:
تهيأ هولاكو لقصد العراق من سنة 654ه، وكان الخليفة المستنصر بالله قد استكثر من الجند حتى بلغ عسكره مائة ألف، فلما ولِيَ المستعصم (640ه)، أشار عليه الوزير ابن العلقم (الخائن) بقطع أكثر الجند، وأن مصانعة التتر وحمل المال إليهم يحصل به المقصود، ففعل ذلك وقلل من الجند، وكاتب الوزير ابن العلقم التترَ وسهَّل عليهم ملك العراق، وطلب منهم أن يكون نائبهم، فوعدوه بذلك”[7]،ودخل هولاكو في مائتي ألف من التتار بغداد في أواخر المحرم 656ه، وقتل الخليفة المستعصم بالله وقتل ولديه، وقتل ببغداد من المسلمين ألف ألف وثمانمائة ألف، واستمر القتل والسبي نحو أربعين يومًا، ولم يسلم إلا من اختفى في بئر أو قناة.
وضع الجيوش الإسلامية بعد سقوط بغداد 656ه:
• خرج الملك المغيث عمر الأيوبي صاحب الكرك (الأردن حاليًّا) لأخذ مصر ومعه المماليك البحرية، ودماء المسلمين لم تجفَّ بعد في بغداد، فلقِيَهم قطز بالصالحية، وقاتلهم، فانهزم الملك المغيث، والتقى المماليك البحرية بعد هزيمتهم من المصريين مع عسكر الملك الناصر يوسف صاحب دمشق في غزة، وانهزم عسكر دمشق.
• الاستعانة بالتتر لأخذ مصر؛ حيث أرسل الملك الناصر يوسف ولده العزيز محمدًا، وصحبته زين الدين الحافظي، بتحف إلى هولاكو، وسأله في نجدة ليأخذ مصر من المماليك[8].
• صمود ميافارقين (شرق تركيا) الشمعة المضيئة: رجب 656ه حاصر التتر ميافارقين بعد استيلائهم على بغداد، وكان صاحبها الملك الكامل محمد الأيوبي، وصبر أهلها مع أميرها على الجوع، واستمر الحصار لمدة عام ونصف حتى فنيت أزوادهم، وفنيَ أهلها بالوباء وبالقتل، وأُسِر أميرها وقتله هولاكو في دمشق صفر 658هـ”[9]، فأين ملوك المسلمين (الناصر والمغيث والأشرف والأمير المنصور) من هذا الحصار؟ وأين الشعوب الإسلامية؟ ولكن التاريخ يعيد نفسه.
• القتال بين الأيوبيين وبعضهم في سنة 657هـ، حيث كان التتار يحاصرون ميافارقين، فخرج الملك المغيث من الكرك بعساكره يريد دمشق فخرج الملك الناصر من دمشق ولقِيَه بأريحا، وحاربه، فانهزم المغيث، وسار الناصر إلى زيراء فخيم على بركتها[10]، وأقام مدة ستة أشهر محاصرًا للملك المغيث، إلى أن وقع الاتفاق بينهما على أن الناصر يتسلم الطائفة البحرية (التي هزمته في غزة) من المغيث”[11]، وفي سنة 657ه قدم الملك العزيز بن الملك الناصر من عند هولاكو، وفي يده رسالة لأبيه لتسليم حلب ودمشق.
الهزيمة النفسية تطول الجيوش الإسلامية:
ضعُفت نفس الناصر وخارت وعظم خوف الأمراء والعساكر من هولاكو، فأخذ الأمير زين الدين الحافظي (الخائن) يعظِّم شأن هولاكو، ويشير بألَّا يقاتل وأن يداري بالدخول في طاعته، فصاح به الأمير بيبرس وضربه وقال: أنتم سبب هلاك المسلمين”[12]، يقول ابن كثير سنة 657ه: “خرج الملك الناصر صاحب دمشق في جحافل كثيرة من الجيش والمتطوعة والأعراب وغيرهم (ما يناهز مائة ألف)، ولما علم ضعفهم عن مقاومة التتر ارفضَّ ذلك الجمع، فإنا لله وإنا إليه راجعون”[13]، جيش مسلم بهذا العدد قُتل فيه روح الجهاد والمقاومة، وبُثَّ فيه اليأس والخذلان، وعملاء التتار من أمراء المسلمين لهم دور كبير في ذلك.
وللمقال بقية بعنوان (عين جالوت 658هـ).
[1] الوافي بالوفيات، ج11، ص153.
[2] البداية والنهاية، ج14، ص28.
[3] البداية والنهاية، ج13، ص99.
[4] الكامل في التاريخ، ج10، ص333.
[5] المرجع السابق ج10، ص 449.
[6] السلوك لمعرفة دول الملوك ج1، ص496.
[7] ذيل مرآة الزمان، ج1، ص87.
[8] السلوك لمعرفة دول الملوك ج1، ص500.
[9] المختصر في أخبار البشر ج3، ص196.
[10] البركةفي منطقة زيزيا جنوبي عمان الأردن.
[11] السلوك لمعرفة دول الملوك، ج1، ص505.
[12] المرجع السابق ج1، ص509.
[13] البداية والنهاية ج13، ص250.