دعاوى إحلال العامية محل الفصحى: هشاشة الأطروحات وخطورة المآلات
دعاوى إحلال العامية محل الفصحى: هشاشة الأطروحات وخطورة المآلات
تختلف اللُّغة العامية أو الدَّارِجة على ألْسُن الناس في أوجه عديدة عن اللُّغة الرسمية أو الفصحى كما في حالة اللُّغة العربية، بمعنى آخر، فاللغة العامية، أو بالأحرى اللهجة العامية، هي بمثابة ميل أو انحراف عن صحيح اللُّغة المكتوبة، هذا “الانحراف” ليس بالضرورة شيئًا سلبيًّا؛ ولكن التمادي فيه يحمل مخاطرَ جَمَّةً على اللُّغة العربية الفصحى أو الأصيلة التي شرَّفَها اللهُ بنزول الوحي، وتُستخْدَم اللهجة العامية كوسيلة تواصُل يومية مُبسَّطة وجامعة لعموم الناس؛ لكونها تخلو من التزامات لغوية صرفية ونحوية كثيرة في اللغة الفصحى؛ ولكن تكمن المشكلة الكبرى في محاولة إدخالها لحرم اللُّغة المكتوبة، وفي أن يكون لها قواعد إملائية وصرفية مُلزِمة وآداب وفنون متداولة… إلخ؛ مما سيترتب عليه تواري العربية الفصحى تدريجيًّا حتى تصبح لغةً متحفيةً أو دينيةً بحتةً يُقرأ بها القرآن فحسب على أمل أن تحدث القطيعة بين المسلم ودينه وتراثه الغني، تلك هي أمنيات سعى ويسعى لتحقيقها على أرض الواقع الاستعمار البريطاني والفرنسي، وقد تبنَّاها المستشرقون وتلامذتهم من العرب والمسلمين ممن لديهم تطبيع مع الاستعمار، كانت هذه الدعاوى خاصة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
ولكِنْ هؤلاء المستشرقون وتلامذتهم استندوا في دعوتهم إلى دعاوى برَّاقة في ظاهرها وخبيثة في باطنها، سأوردها فيما يلي مع دحضها بالأدلة العلمية.
1- الدعوى الأولى: اللغة العربية الفصحى مُعقَّدة وجامدة ويصعب على العامة استيعاب قواعدها واستخدامها في حياتهم اليومية:
مبدئيًّا، فإن اللغة العربية لغة إثراء وإمتاع وإلهام، والدعوى تنمُّ على فهم معيب للعلاقة بين العامية والفصحى ووظيفة كل منهما، وكما أسلفت، فالعامية أو المحكية لغة مبسطة وتتحرَّر قليلًا من قواعد النطق والصرف والنحو المُلزِمة في اللغة الفصحى، وهي ظاهرة طبيعية في لغات الأرض ومن ضمنها العربية، وكانت موجودة منذ القدم في اللِّسان العربي، فلكل من العامية والفصحى حدودها، ولا يليق أن تتغوَّل العامية على الفصحى فتتحوَّل من لهجة محكية إلى لغة مكتوبة بقواعد ثابتة مغايرة للغة العربية الفصحى، هذا باختصار تدمير لصحيح اللغة العربية؛ لغة القرآن الكريم.
2- الدعوى الثانية: اللغة العربية الفصحى مُعقَّدة وجامدة ويصعب على طلابها من الناطقين بها تعلُّمُها وإتقانها، ويتجلَّى ذلك في ضعف مستوى مُدرِّسيها وطُلَّابها في آنٍ واحدٍ:
هذه الدعوى هي محاولة إلباس للحق بالباطل، ويضع اللغة العربية في موضع اتِّهام صريح, وهي بريئة منه، رغم حقيقة تدنِّي مستوى اللغة العربية لدى الطلاب الناطقين بها؛ ولكن الحقيقة الأخرى التي أخفاها أصحاب هذه الدعوى أن السبب الأساسي لهذا التدنِّي هو الغزو الفكري المتغلغل في المجتمعات العربية الذي يعتمد سياسة مزاحمة اللُّغات الأجنبية للعربية، بالإضافة إلى تعظيم العامية وتقزيم الفصحى وعدم وجود قوانين لحماية اللغة العربية وعدم تفعيلها – إن وجدت – وتدنِّي مستوى الخطاب اللُّغوي بالإعلام الرسمي والخاص والأعمال الفنية التي اعتادت تقديم صورة نمطية سلبية للغة العربية ومُدرِّسيها ودارسيها.
3- الدعوى الثالثة: الدعوة إلى الارتقاء باللهجة العامية تستهدف انحسار الهوَّة الكبيرة بينها وبين الفصحى:
هذه الدعوى ربما الأكثر دهاء من بين كل دعاوى الاجتراء على لغة القرآن، ببساطة، فإن اللهجة العامية هي الفرع والأصل هو اللغة العربية الفصحى، أو أن العامية هي الاستثناء والفصحى هي القاعدة؛ لذلك فإن التقريب بين الفرع والأصل لا يمكن أن يتضمَّن تنكُّر الفرع للأصل أو تغوُّلًا عليه.
4- الدعوى الرابعة: السبب الرئيس في تخلُّف العرب والمسلمين هو عدم قدرة اللغة العربية الفصحى على مواكبة التطوُّر العلمي والتكنولوجي:
دعوى أخرى تحمل في طيَّاتها تحيُّزًا ذهنيًّا ضد اللغة العربية، فحينما تسود الأمم وترتقي حضاريًّا ترتقي لغاتها بالتوازي، وحينما سادت الحضارة الإسلامية والعربية في الأندلس وغيرها قرونًا مديدة سادت لغة القرآن، إن خسوف نجم الحضارة العربية والإسلامية قد نتج عن التفريط في مقوِّمات الهوية الجامعة للمسلمين وفي القلب منها اللغة العربية، والعكس ليس صحيحًا.
إن قضية ترقية اللهجات العربية إلى مستوى اللغة المكتوبة لتكون بديلًا للعربية الفصحى أو الأصيلة، هي في الأصل قضية سياسية ترتدي ثوبًا إصلاحيًّا وأكاديميًّا، ليس أدَل على ذلك من أن أوَّل المعاهد المعتمدة لتدريس اللهجات العامية ظهر في أوروبا في بدايات القرن الثامن عشر مثل مدرسة نابولي للدروس الشرقية بإيطاليا عام 1927م ومدرسة القناصل بالنمسا 1747م، وأن أقوى الأصوات المطالبة بذلك هي أصوات المستشرقين إبان الاستعمار الفرنسي والإنجليزي أمثال المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون والألماني وولهلم سبيتا… إلخ، وتبعهم في ذلك تلامذتهم من العرب والمسلمين أمثال لطفي باشا السيد وعبدالعزيز باشا فهمي من مصر، وأنيس فريحة ومارون غصن من الشام، الذين بلغت ببعضهم الجرأة في المطالبة باستبدال الحروف العربية باللاتينية؛ بل وفرض العامية بديلًا عن الفصحى ولو بالقوة العسكرية إن اقتضى الأمر.
ختامًا: فإن انتباه الأُمَّة إلى أن قضايا اللُّغة العربية عمومًا وقضية إحلال العامية محل الفصحى خاصة هي قضايا تمسُّ هوية وعقيدة وكيان الأمة الإسلامية واختزالها في الجانب الأكاديمي أو الفني هو سلاح قوي يستخدمه دُعاةُ الفتك بلغة القرآن.