التاريخ الإسلامي

حياة أبي بكر الصديق في مكة


حياة أبي بكر الصديق في مكة

(أبو بكر الإنسان)

 

كلما ذُكِر أبو بكر أمامي تنتابني مشاعر من الفخر والعِزَّة وتأمُّلات في شخصيته وسيرته الذكية العطرة، ورحت أتأمل التاريخ، تاريخ حياته، وتاريخ أمة الإسلام في صدر الإسلام، وما أحوجنا في هذه الأوقات إلى العودة إلى تاريخنا؛ لنأخذ من فيضه ما يساعدنا على تخطِّي العقبات التي نواجهها! وعند إعدادي لهذا المقال بحثتُ كثيرًا عن كتب تخبرنا عن حياة أبي بكر في مكة، فوجدت كل الكتب تدور حول أربعة محاور:

1- دعوته.

2- ابتلائه.

3- دفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

4- إنفاقه لأمواله لتحرير العبيد.

5- هجرته الأولى وموقف ابن الدغنة منها.

6- بين قبائل العرب في الأسواق[1].

 

لكن لم أجد في هذه الكتب ما يحكي عن حياته بشكل مفصل لنأخذ منها العبرة، ونقارن ما تسير عليه حياتنا، وما سارت عليه حياة الصحابة في ذلك الزمان، فالإنسان يمرُّ بمواقف كثيرة تتعلق بالحياة والدين، ويحتار في اتخاذ قراره فيها، أي الأفعال يختار ولا يجدي ما يثبر غوره، ويحاول تطوير حياته حتى نقترب من أخلاق وأعمال تلك المجموعة الأولى من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فمثلًا لم أجد في كتب السير ما يتحدَّث عن:

1- كيف كان يتم إخفاء حركة المسلمين في مكة؟

2- دروس تعلُّم الدين في دار الأرقم.

3- هل ترك كل صحابي مهنته وتفرَّغ فقط للدعوة إلى الدين الجديد؟ وكيف كانت العلاقات الاقتصادية مع قريش؟

4- العلاقات الاجتماعية في ظل الدين الجديد.

 

وغيرها من الكثير من المحاور التي بالتعرف عليها يكون قد تكوَّن لدينا نموذجٌ حيٌّ لحياة هذا الجيل، ويسهل علينا مقارنته بحياتنا اليومية؛ ومن ثَمَّ تطوير حياتنا حتى نقترب منهم فنستطيع تكوين الجيل الجديد الذي يعيد لهذا الدين مكانته وعِزَّته كما في التربية باتخاذ فرد ما قدوةً هي من أفضل الطرق في تربية القادة، وكلما اتيحت تفاصيل عن هذه القدوة كانت عملية التعلُّم من هذه القدوة وتطوير حياتنا بناءً على ذلك سيؤدي إلى بناء قدوات جُدُد مماثلين لما كان عليه الصَّحْب الأُوَل.

 

أولًا: كيف كان إخفاء حركة المسلمين في مكة:

الأرقم هو أحد الصحابة، أسلم على يدي أبي بكر الصديق، وكان صغير السِّنِّ في ذلك، وتم اختيار داره؛ لأنها كانت في أعالي مكة، فهي في مكان تقلُّ فيه الحركة بين الناس وذلك بخلاف أحياء مكة الأخرى المليئة بالحركة، وأدى اختيار هذا المكان إلى إخفاء مكان تجمُّع المسلمين في مرحلة الدعوة السِّريَّة، ولم يرد ما يفيد أنه تم تغيير هذا المكان إلى مكان آخر بعد الجهر بالدعوة، فكان هذا المكان هو مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم الأولى التي ربَّى فيها أصحابه، وكان عدد المسلمين في هذا العهد معدودين، ويعرف كل منهم الآخر، ويخفي كل منهم عن أهله حاله من اعتناقه لهذا الدين الجديد، ولعل ما يدل على مدى سرية هذه الدعوة ما حدث مع أبي بكر عندما دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الكعبة وذلك حينما حاول كُفَّار قريش إيذاء النبي وهو يصلي عند الكعبة فوقف دونهم أبو بكر، وجعلوا يضربونه بأيديهم ونعالهم، وتم حمله لبيته، وعندما أفاق سأل عن حال رسول الله، فقالت له أُمُّه: لا ندري شيئًا عنه، فقال لها: اذهبي إلى أُمِّ جميل بنت الخطاب فاسأليها، وهذا ما يعنينا في هذا الموقف، فعندما ذهبت أم أبي بكر إلى أم جميل تسألها عن حال رسول الله، فأخفَتْ أُمُّ جميل إسلامَها وأجابتها بأنها لا تدري عنه شيئًا، ثم قالت لها: إن أردْتِ أن آتي، فأنظر حال ابنك آتي معك، ولمَّا ذهبت إلى أبي بكر سألها أبو بكر عن حال رسول الله، فقالت أُمُّ جميل: هذي أمُّك تسمع، فقال أبو بكر: ما عليك منها، ما حال رسول الله؟ فقالت: هو معافًى والحمد لله في بيت الأرقم[2].

 

مَنْ علَّم أُمَّ جميل أن تكون على هذا القدر من الحيطة والحذر، فهذا الحدث كان بعد الجهر بالدعوة، ومع ذلك كان كل صحابي يكتم دينه وما يظهر أيضًا أن مكان اجتماع النبي بالصحابة قد عرف بعد، ما يعنينا هنا أمور هي:

1- اختيار أبي بكر لأُمِّ جميل دون غيرها، وأحسب أن ذلك لأنه لو دعا أحدًا من الرجال فربما يعرف أن هذا الرجل على الدين الجديد.

2- أن لأم جميل دورًا في تنظيم أعمال الدعوة كحلقة وصل بين بعض المسلمين والبعض الآخر.

3- حيطة أم جميل الشديدة في التعامل في هذا الموقف.

4- أنه ولا بُدَّ كانت هناك وسيلة تواصُل بين هؤلاء النفر الذين أسلموا.

5- أنهم كانوا يجتمعون في بيت الأرقم بناءً على نظام محدد.

 

ثانيًا: دروس تعلُّم الدين في دار الأرقم:

دار الأرقم كانت هي الحاضنة الأولى لتعليم هؤلاء النفر الذين أسلموا تعاليمَ هذا الدين الجديد، فكان يجتمع فيها النبي مع أصحابه ليُعلِّمهم الآيات من القرآن وأحكام العقيدة في هذا الدين الجديد، والأحكام الشرعية المرتبطة بهذه الفترة من الدعوة، ولتنظيم هذه العملية فلا بُدَّ وأنه كان هناك من يذهب إلى بيت الأرقم ليتعلَّم القرآن وأحكام الدين، ثم يذهب ليعلم آخرين في بيوتهم أو في أماكن أخرى، ونرى ذلك جليًّا في قصة إسلام عمر بن الخطاب عندما طرق باب بيت أخته فسمع من خلف الباب مَنْ يقرأ القرآن، فكان القارئ هو خبيب بن عدي يعلم سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وزوجته الآيات من سورة طه، فكانت هذه أحد الوسائل لكتمان الدعوة، فبدلًا من أن يذهب الجميع إلى بيت الأرقم ويكون محل إثارة أسئلة، كان يذهب بعض الصحابة ليتلقوا الدين من النبي صلى الله عليه وسلم ثم يذهبون ليعلموه لغيرهم.

 

ثالثًا: هل ترك كل صحابي مهنته وتفرَّغ فقط للدعوة إلى الدين الجديد:

لم يرد في كتب السير ما يُوضِّح هل ترك الصحابة مهنتهم وتفرَّغوا فقط لتعلُّم الدين الجديد والتعبُّد لله عز وجل أم ظلوا في أعمالهم بجانب أعمالهم في دعوتهم؟ والراجح أن كلًّا منهم ظل يعمل في مهنته التي كان يعمل فيها بجانب دوره الجديد من تعلُّم أحكام الدين الجديد، ودعوة غيره للدخول في هذا الدين، فكانت أعمال التجارة والعلاقات الاقتصادية بين من أسلم وغيره تتمُّ بشكل عادي دون أي تغيير، سواء كان هذا الصحابي قد أعلن إسلامه أم لا، فمن كان يعمل بالتجارة ظل يعمل بها، ومن كان حدَّادًا أو عبدًا أو يمتهن أي مهنة أخرى ظلَّ على حاله دون تغيير، ولعلَّ ما يؤكد هذا أنه عندما حاصرت قريش الرسول وبني هاشم في شعب بني هاشم فقد خصَّصوا منع التجارة والزواج مع هذا الحي فقط من قريش أمَّا باقي الصحابه فكانوا في أعمالهم ومِهَنهم كما كانوا، كذلك موقف أبي طالب عندما تولَّى الخلافة فترك التجارة وحدَّد له عمر بن الخطاب مبلغًا معينًا يأخذه ليصرف على بيته.

وعلى هذا فليس في هذا الدين أي نوع من أنواع التواكُل؛ بل يجب أن تسعى في أعمال معاشك اليومية بجانب أدوارك الدعويَّة الأخرى دون الإخلال بأيٍّ منهما.

 

رابعًا: العلاقات الاجتماعية في ظل الدين الجديد:

لقد استحدث الإسلام نظامًا اجتماعيًّا جديدًا من الأخوَّة بين من أسلم، وحرص كل منهم على مصلحة أخيه والسعي فيما يفيده، فكانت قاعدة اجتماعية جديدة تُضاف إلى القواعد الاجتماعية الأخرى الموجودة في مكة أصلًا، فهؤلاء بنو تميم عندما قام عتبة بن ربيعة بضرب أبي بكر تجمَّع بنو تميم لنصرة أبي بكر وأخذ حقَّه من عتبه، وكانت الزيارات الاجتماعية تتم بشكل طبيعي بين الصحابة وأهليهم مَنْ أسلم أو لم يسلم، ولم يُؤثَر أنَّ أحدًا منهم توقَّف عن صلة رحمه والتواصُل معهم بعد أن اعتنق هذا الدين الجديد، فهذا الدين أتى ليُوطِّد العلاقات الاجتماعية بين مَنْ أسلم وأخيه في الإسلام وكذا صلة رحمه الأخرى.

 

الدروس المستفادة:

1- تعلُّم أحكام الإسلام واجب على كل مسلم مهما كانت ظروفه.

2- كتمان الدين أو الأمور الخاصة واجب في بعض الأحيان وحسب الضرورة.

3- الفطنة في التعامل مع الأمور وعدم الانجرار وراء الأحداث السريعة؛ بل يجب التأمُّل والتدبُّر واحتساب العواقب.

4- وجوب وجود حاضنات أو أماكن لتعلُّم أحكام الدين بالتفصيل بالإضافة إلى المدارس العادية والمساجد.

5- السعي على المعاش في الدنيا واجبٌ ويجب عدم الاتِّكال.

6- المسلم يجب أن يكون قدوةً في جميع أعمال حياته.

7- صِلةُ الرَّحِم واجبةٌ سواء الرَّحِم من ناحية الأسرة والقبيلة أو من ناحية الدين.

8- الإسلام دين شامل يُغطِّي جميع جوانب الحياة.

9- قراءة سِيَر العظماء تضيف رصيدًا من الإيمان والفخر والتعلُّم والتدبُّر لا يُضاهيه قراءة آلاف الكُتُب في غير ذلك.

10- نصرة الدين بالقول والفعل هى ركن رئيس في هذا الدين.


[1] انشراح ورفع الضيق في سيرة الصديق، لمزيد من التفاصيل عن هذه البنود، يرجى الرجوع لهذا الكتاب القيِّم.

[2] السابق بتصرُّف.





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى