التاريخ الإسلامي

موقف غوستاف لوبون من رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم


موقف غوستاف لوبون من رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم

 

تعدَّدت وتنوَّعت مدارس الاستشراق بتعدُّد أهدافها ومناهجها ومشاربها ومآربها؛ لكنها اتفقت جميعًا على العداء للإسلام والمسلمين منطلقةً من أصول عقائدية تدعمها دول استعمارية ذات نزعة صليبية تباركها كنيسة حاقدة على دين الإسلام ونبي الإسلام وجميع المسلمين.

 

خرَّجَتْ هذه المدارس عددًا كبيرًا من الشخصيات العلمية الموسوعية التي تخصَّصَتْ في دراسة الإسلام وتعمَّقت في العلوم الإسلامية وكل ما أنتجته الحضارة الإسلامية من علومٍ وفكرٍ، كما توسَّعت في دقة التخصُّص لتشمل كافة العلوم التي أنتجتها تلك الحضارة، ولم تغفل عن تقسيم هذه الدراسات إلى تخصُّصات وفروع محددة، وكان محور التركيز في تناول القرآن الكريم ومصدره، والرسول وحقيقة الرسالة وطبيعة الوحي.

 

تناول هؤلاء الدارسون هذينِ الموضوعَينِ بمنهجيَّات مختلفة غلب عليها الحكم المسبق الناتج عن خلفيَّات سياسية ودينية، وندر ما قامت دراساتهم على الموضوعية العلمية أو اتباع مناهج البحث العلمي المحايد أو القائم على منهج الحقيقة لذاتها؛ لا لتعزيز حكم مسبق، وتحقيق غاية معقودة.

 

وللإنصاف وجد من هؤلاء الباحثين من كان له شيء من الإنصاف أو الاقتراب منه، ومن هؤلاء الذين كانوا أقرب إلى الموضوعية والتقيُّد بالمنهجية العلمية التي هي الأداة الوحيدة للوصول للحقيقة، هو المستشرق “غوستاف لوبون” في تناوله لشخصية الرسول صلى الله عليه أفضل الصلاة والسلام.

 

ولد لوبون في (7 مايو 1841 – وتوفي في 13 ديسمبر 1931)، وكان طبيبًا ومؤرخًا فرنسيًّا، عمل في أوروبا وآسيا وشمال إفريقيا، كتب في علم الآثار وعلم الإنثروبولوجيا.

 

من أشهر آثاره العلمية:

حضارة العرب، وحضارات الهند، والحضارة المصرية، وحضارة العرب في الأندلس، وسر تقدُّم الأمم، وروح الاجتماع الذي كان إنجازه الأول.

 

هو أحد أشهر فلاسفة الغرب، وأحد الذين امتدحوا الأمة العربية والحضارة الإسلامية؛ لم يسر “غوستاف لوبون” على نهج معظم مستشرقي أوروبا، حيث أكَّد وجود فضلٍ للحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية المعاصرة.

 

قام “غوستاف لوبون” برحلاتٍ عدة ومباحثات اجتماعية خلال حياته في العالم الإسلامي، أيقن بموجبها أن المسلمين هم من مَدَّنوا أوروبا، وقد عبَّر عن آرائه عن المسلمين وحضارتهم في كتاب حضارة العرب الذي سلك فيه طريقًا نادرًا؛ إذ جمع فيه عناصر عديدة؛ ممَّا أثرت به الحضارة العربية في العالم، وبحث في قيام دولتهم وأسباب عظمتها وانحطاطها.

 

من مؤلفاته:

حضارة العرب، روح الثورات والثورة الفرنسية، روح الجماعات، السنن النفسية لتطوُّر الأمم، روح التربية، روح السياسة، فلسفة التاريخ، اليهود في تاريخ الحضارات، حياة الحقائق، حضارات الهند، روح الاشتراكية.

 

تناول لوبون شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في كتابه حضارة العرب بعد هجرته إلى المدينة المنورة تحت عنوان: (محمد بعد الهجرة).

 

وإن تناول شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في الفترة المكية إلا أنه أفرد له عنوانه هذا؛ ليُركِّز على شخصية محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بعد هجرته إليها، وشروعه في تأسيس المجتمع المدني المسلم كنواة أولى لدولة إسلامية مترامية الأطراف.

 

يشيد لوبون بتنظيم الحياة في كافة الجوانب وَفْق نظم الشريعة الإسلامية التي يصفها (بشؤون دينه) وهذه حقيقة أن الحياة في الحضارة الإسلامية وَفْق شؤون الشريعة الإسلامية التي مصدرها الأول هو القرآن الكريم الذي كان يتنزل على محمد صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة أو كبيرة تواجهه طيلة حياته وحتى أكمل الله دينه، قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].

 

يقول لوبون: (شرع محمد منذ وصوله إلى المدينة ينظم شؤون دينه، وأخذ القرآن الذي كان في طور التكوين يكتمل بفضل توافر نزول الوحي على محمد في جميع الأحوال الصعبة خلا مبادئه الإنسانية).

 

وفي تناول لوبون لشعائر الإسلام بيَّن سُنَّة التدرُّج في التشريع وممارسة الشعائر الإسلامية، وبيَّن دعوة المسلمين إلى التقيُّد بها وممارستها وفق التشريع الإسلامي، قال: (وضعت شعائر الإسلام بالتعاقب؛ فسُنَّ الأذان لدعوة المؤمنين إلى الصلوات الخمس، وفُرض صوم شهر رمضان؛ أي: الامتناع عن الطعام من الفجر إلى غروب الشمس شهرًا كاملًا، وفُرِضَت الزكاة التي يُعين المسلم بها الدين الذي أُقيم.

 

وفي حديثه عن غزوة بَدْر نجد أنه يعتبرها غزوةً مهمَّةً، ويشيد بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بكونه قائدًا يشارك بنفسه في المعارك: (وصار محمد بعد وصوله إلى المدينة يقود الغزوات بنفسه، أو بواسطة أحد أصحابه، وغزوة بدر التي وقعت في السنة الثانية من الهجرة هي أولى الغزوات المهمة، ففيها انتصر جنود محمد، الذين لم يزيدوا على (٣١٤) مقاتلًا، والذين لم يكن بينهم سوى ثلاثة فرسان، بينما أعداؤهم كانوا ألف مقاتل، فكانت هزيمة أعداء النبي التامة في بدر فاتحة شهرته الحربية.

 

وبكل إنصاف وحياد تام يتناول “لوبون” تعامل الرسول مع خصومه أثناء الحرب التي يصفها بالاعتدال، ويستثني مرة واحدة مع اليهود الذين خانوا العهد، وتحالفوا مع عدوٍّ محارب، وهذه العقوبة تُعرَف بالخيانة العظمى، وعقوبتها لا تختلف عن عقوبة الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء الخونة.

 

ويقول: إن محمدًا كان يتحلَّى برباطة جأش وقت الشدائد واعتدال وقت الانتصار، وهذه الصفات لا تتوفر إلا في قائد عظيم بعيد عن القسوة أو حب الانتقام صلى الله عليه وسلم.

 

أنصف لوبون حين تناول فتح مكة، وكان أمينًا في نقل أقوال المفاوضين المفوضين من قريش في صفات الرسول صلى الله عليه وسلم في محاولتها اليائسة لصدِّه عن دخول مكة.

 

(وعظم شأن محمد في عدة سنين، وأصبح لا بُدَّ له من فتح مكة حتى يعم نفوذه، ورأى أن يفاوض قبل امتشاق الحسام وصولًا إلى هذا الغرض، فجاء إلى هذا البلد المقدس ومعه (١٤٠٠) من أصحابه ولم يكتب له دخوله، وقد دُهش رُسُل قريش من تعظيم أصحابه له؛ فقال أحدهم: إني جئت كسرى وقيصر في ملكهما، فوالله ما رأيت ملكًا في قومه مثل محمد في أصحابه.

 

وقد نقل لوبون في كتابه حضارة العرب العديد من أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم نُقلت عن الصحابة وأكَّد عليها اعترافًا صريحًا بما كان يتمتَّع به رسولُ الإسلام من صفات حميدة وتصرُّفات نبيلة (ويُضاف إلى الوصف السابق ما رواه المؤرِّخون العرب الآخرون من أن محمدًا كان شديد الضبط لنفسه، كثير التفكير صموتًا، حازمًا سليم الطويَّة، عظيم العناية بنفسه، مواظبًا على خدمتها حتى بعد اغتنائه.

 

وفي تناوله لشجاعة الرسول وصبره على المشاق يقول: إنه ثابت عالي الهِمَّة في لين ودعة، وكان مقدامًا في غير تهوُّر، يُعلِّم أتباعه الشجاعة والإقدام، وهو ما قاله: الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه (لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أقربنا إلى العدوِّ، وكان من أشد الناس يومئذٍ بأسًا)؛ رواه أحمد وابن أبي شيبة.

 

(وكان محمدٌ صبورًا قادرًا على احتمال المشاقِّ ثابتًا بعيد الهِمَّة ليِّن الطبع وديعًا).

 

(وكان محمد مقاتلًا ماهرًا، وكان لا يهرب أمام المخاطر ولا يلقي بيديه إلى التهلكة، وكان يعمل ما في طاقته لإنماء خلق الشجاعة والإقدام في بني قومه).

 

وفي توكيده على فطنة الرسول صلى الله عليه وسلم التي يؤكد عليها سواء كانت آتية من خلفية علمية أو بفطرة الله التي فطره عليها فهي تذكرة بفطنة وذكاء نبي بني إسرائيل سليمان بن داوود عليهما السلام.

 

(وكان محمد عظيم الفطنة سواء أكان متعلمًا أم غير متعلم، وتذكرنا حكمته بما عزته كتب اليهود إلى سليمان).

 

وعن حكمته في شبابه ينقل حادثة وضع الحجر الأسود، وكيف تصرف بحكمةٍ حقَنَ بها الدماء وأرضى الجميع، لم ينحَزْ لطرفٍ على حساب طرفٍ ليزداد هو شرفًا ومكانةً بين سادة قريش وأقطابها الكِبار.

 

(شاءت الأقدار أن يكون محمد، وقد كان شابًّا حكيمًا بين أقطاب قريش الذين كادوا يقتتلون حين اختلفوا فيمن يضع في أحد جوانب الكعبة، ذلك الحجر الأسود الشهير الذي كان العرب يعتقدون أن ملكًا جاء به من السماء إلى إبراهيم؛ فقال محمد الشاب أمام الخصوم الذين أوشكوا أن يلجؤوا إلى السلاح: هَلُمُّوا إليَّ ثوبًا، فأتي به، فنشره وأخذ الحجر الأسود ووضعه بيده فيه، ثم قال: ليأخذ كبير كل قبيلة بطرف من أطراف الثوب، فحملوه جميعًا إلى ما يُحاذي موضع الحجر من البناء، ثم تناوله محمد من الثوب ووضعه في موضعه، وانحسم الخلاف.

 

ورد حاسمًا على أحد كبار المستشرقين المشكِّكين في الوحي وفي نزول جبريل عليه السلام بالقرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المستشرق “تيودور نولدكه”، وقال في كتابه الشهير (تاريخ القرآن): إن الوحي لم يكن إلا حالة صرع كانت تنتاب الرسول، فرَدَّ عليه بأن هذه الفرية لم يأتِ بها أحدٌ قبله، ولم يجد أحدًا من مؤرخي العرب من ذكر ما يقطع بذلك، وحتى خصومه الذين لا يؤمنون “بالوحي” يرون محمدًا حصيفًا سليم الفكر.

 

(وقيل: إن محمدًا مصاب بالصرع، ولم أجد في تواريخ العرب ما يُبيح القطع في هذا الرأي، وكل ما في الأمر هو ما رواه معاصرو محمد وعايشه منهم، من أنه كان إذا نزل الوحي عليه اعتراه احتقان وجه فغطيط فغثيان، وإذا عدوت “هوس محمد” ككل مفتون، وجدته حصيفًا سليم الفكر).

 

إن استخدام لوبون لكلمة (هوس) فهذا وصف منكر وغير مقبول إلا أنه غير مستغرب، فهو مستخدم من المستشرقين في الدراسات الاستشراقية و”لوبون” أحدهم وهو مستشرق لا يؤمن بنبوة محمد، ولا يدين بالإسلام، فلم يخرج عن كونه أحد أعمدة الاستشراق، وأنه يتكلَّم من منطلق استشراقي، حاول أن يكون فيه على قَدْرٍ من الإنصاف إلى حد ما، فأصاب في بعض المواضع، وجانبه الصواب في أخرى.

 

وأمَّا إفك تهمة محمد بالصرع، فقد تولَّى كبرها كبيرُهم نولدكه الذي يصفه جولدتسهير (زعيمنا الكبير تيودور نولدكه في كتابه الأصيل البكر “تاريخ القرآن” الذي نال جائزة أكاديمية النقوش الأثرية بباريس) الذي افترى فيه أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يصاب بحالة من الصرع أثناء نزول الوحي عليه، ﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ﴾ [الكهف: 5].

 

يثني لوبون على قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بتوحيد العرب على دين واحد وتحت قيادة موحَّدة وهو ما اعتبره آيةً كبرى.

 

(وجمع محمد قبل وفاته كلمة العرب، وخلق منهم أمة واحدة، خاضعة لدين واحد، مطيعة لزعيم واحد، فكانت في ذلك آيته الكبرى، لم يتحقق في الديانتين اليهودية والنصرانية اللتين سبقتا الإسلام).

 

(ومهما يكن من أمر فإن مما لا ريب فيه أن محمدًا أصاب في بلاد العرب نتائج لم تصب مثلها جميع الديانات التي ظهرت قبل الإسلام، ومنها اليهودية والنصرانية؛ ولذلك كان فضل محمد على العرب عظيمًا).

 

وهذا الكلام يصب أو ينهل ممَّا قرره الإمام ابن خلدون في مقدمته: حتى إذا اجتمعت عصبية العرب على الدين بما أكرمهم الله تعالى من نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم، زحفوا إلى أمم فارس والروم، وطلبوا ما كتب الله لهم من الأرض بوعد الصدق.

 

(وإذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد من أعظم من عرفهم التاريخ)، وهذه الشهادة المنصفة من رجل لا يؤمن بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي مرسل من الله، وكان تناوله لشخصية محمد مجردًا من الإيمان؛ بل كانت دراسة علمية صرفة، كان الهدف منها معرفة هذه الشخصية على حقيقتها بروح حيادية غير قائمة على أحكام مسبقة قائمة على عقيدة عدائية أو أهداف سياسية تخدم مصلحة حضارة متصارعة مع الإسلام والمسلمين.

 

وبميزان العدل والإنصاف تظهر الحقائق، وتنزاح الغمامة، وينجلي الحق الذي هو غاية كل منصف وشخصية محمد صلى الله عليه وسلم لا يعكر صفوها جاحد أو حاقد.

 

المراجع:

١– غوستاف لوبون، حضارة العرب.

٢– عبدالرحمن بن خلدون، المقدمة.

٣– إجنتس جولدتسهير، مذاهب التفسير الإسلامي.

٤– نولدكه، تاريخ القرآن.

٥– أبو الحسن الندوي، الإسلام وأثره في الحضارة وفضله على الإنسانية.





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى