التاريخ الإسلامي

النمير الداني لشرح مقدمة ابن ابن أبي زيد القيرواني لوليد بن محمد بن عبدالله العلي


النمير الداني لشرح مقدمة ابن ابن أبي زيد القيرواني

لوليد بن محمد بن عبدالله العلي

 

صدر حديثًا كتاب:

“النمير الداني لشرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني”، تأليف: أ.د. “وليد بن محمد بن عبد الله العلي” (ت 1438 هـ)، اعتنى به: “فايز بن متعب الديحاني”، قدم له: د. “محمد بن حمد الحمود النجدي” ود. “محمد محمدي النورستاني”، نشر: “دار ركائز للنشر والتوزيع”.


وهذا الكتاب يضم شرحًا على “مقدمة ابن أبي زيد القيرواني” في العقيدة، كان الشيخ “وليد العلي – رحمه الله – قد وضعه ضمن تعليقه على كتاب “قطف الجني الداني” للشيخ عبد المحسن العباد، وقد قام الشيخ بإتباع هذا الشرح بشرحه لمنظومة المتن الذي قام بنظمه الشيخ “أحمد بن مشرَّف الإحسائي المالكي” – رحمه الله – المتوفى سنة 1285 هـ، وجاء هذا التعليق لتوضيح النثر والنظم معًا، حيث أتى بلفظ سهل ميسور لطلبة العلم، وكان هذا ضمن شروحه للمقدمة، والتي يروى أنه شرحها ودرسها لطلابه قرابة المئة مرة، وذلك لسهولة تلك المقدمة، وإحاطتها بجميع مباحث العقيدة، حيث احتوى الكتاب على شرح لأصول الإيمان الستة التي جاء ذكرها في حديث جبريل – عليه السلام – عن الإسلام والإيمان والإحسان، فالأصل الذي اعتمد عليه الشارح هو كتاب الشيخ “العبَّاد”، والمتن يحتوي على الإيمان بالله وما له من الأسماء والصفات، وأن ذات الله لا تشبهها ذات، وكذلك صفاته، وأن الله ليس له شريك ولا صاحبة ولا ولد، وأنه مستو على عرشه استواءً يليق بجلاله، وهو مع خلقه بعلمه، وبيان أن الإيمان عند أهل السنة اعتقادٌ وقولٌ وعملٌ، وعلى الإيمان بملائكة الله المكرمين، وأنهم موكلون بمهام أوكلها الله إليهم، وعلى الإيمان بالكتب التي أنزلها الله على رسله وآخرها القرآن الكريم، وأنه كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وعلى الإيمان بالأنبياء والمرسلين الذين أرسلهم الله إلى أهل الأرض، وأنه لا يعلم عددهم إلا الله، وقد ورد أسماء خمسة وعشرين منهم في القرآن، وآخرهم هو محمد – صلى الله عليه وسلم – رسول الله إلى الإنس والجن، وعلى الإيمان باليوم الآخر، وهو ما بعد دار الدنيا من حين دخول القبر وسؤال الملكين وفتنتهم، والدخول إما إلى الجنة أو النار، وأن الجنة والنار مخلوقتان، أعد الجنة للمؤمنين، والنار للعاصين، والورود على الصراط، وذكر الإيمان بالقضاء والقدر، خيره وشره حلوه ومره كلٌ من عند الله، ثم ختم بذكر الصحابة وأنهم أفضل القرون بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – وأفضلهم الخلفاء الأربعة على الترتيب المذكور، ثم بقية العشرة، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وأنه لا يجوز الطعن فيهم، وأنه يجب أن نذكرهم بكل خير، وأن ما وقع بينهم إنما هو اجتهاد منهم يدورون فيه بين أجر وأجرين، ووجوب طاعة ولاة الأمور من العلماء والأمراء في طاعة الله، وألا نشق عصا الطاعة بين المسلمين.

 

وبذلك نجد تلك المقدمة على وجازتها قد جمعت وضمت جملًا من عقيدة أهل السنة والجماعة، إلى جانب سهولة عباراتها، مما يقرب هذه العقيدة للناس، وخاصةً طلبة العلم المبتدئين، وهذه المقدمة تقدمت رسالة عظيمة نظم فيها ابن أبي زيد القيرواني قواعد مذهب إمام دار الهجرة أبي عبد الله مالك بن أنس الأُصْبُحِيّ.

 

وكانت تلك “الرسالة” أَول مؤلفاته، ولهذا قالوا: “هي باكورة السَّعْدِ، وزبدة المذهب”، وقد كتبها استجابة لرغبة بَلَدِيِّهِ، مُؤَدِّبِ الصِّبْيَةِ، ومعلمهم القرآن الكريم: أَبي محفوظ مُحْرَز بن خلف البكري التونسي المالكي، المولود سنة 340 هـ، والمتوفى سنة 413 هـ.

 

وقيل: بل إِن الذي طلب منه تأْليفها هو: السَّبَائي: إِبراهيم بن محمد، فالله أَعلم.

وهي أَول مختصر في مذهب المالكية.

 

وقد اعتمدها المالكية شرقًا وغربًا، وعكفوا عليها: دراسة، وتدريسًا، وتلقينًا، وحفظًا، وشرحًا، ونظمًا؛ حتى بلغت شروحها نحو ثلاثين، بل قال زَرُّوق، المتوفى سنة 899 هـ – رحمه الله تعالى- في شرحه لها: (1/ 3): “حتى لَقَدْ ذُكر أَنها منذ وجدت حتى الآن، يَخْرج لها في كل سنة شرح وتبيان”.

 

فتكون شروحها والبيانات عنها بالمئات حتى أَن علي ابن محمد بن خلف المُنُوفي المتوفى سنة 939 هـ له ستة شروح على الرسالة.

 

ولشدة الحفاوة بها كتبت بالذهب، وبيعت أَول نسخة منها في حلقة شيخه بالِإجازة، شيخ المالكية ببغداد: أَبي بكر محمد بن عبد الله التميمي الأَبهَري، المُتوفَّى سنة 375 هـ -رحمه الله تعالى- بيعت بعشرين دينارًا ذهبًا.

 

ولشدة الحفاوة بها أَيضًا، كان أَخذ التلاميذ لها عن الأَشياخ بالِإسناد والاجازة إلى مؤلفها، وأَسانيدُها مثبتة في الأَثبات، والمشيخات، والفهارس حتى عصرنا.

 

وقد تميزت هذه الرسالة عن غيرها من كتب الفقه التي تقدمتها أو تأخرت عنها بأنها قد جمعت بين أصلين عظيمين: الفقه الأكبر وهو فقه الاعتقاد، والفقه الأصغر وهو فقه العبادات والمعاملات، وبذلك جمع ابن أبي زيد القيرواني في كتاب واحدٍ بين فقهين: الفقه الأكبر الذي ضمنه مقدمته، والفقه الأصغر الذي شرع في شرحه في “رسالته” بدءًا من كتاب الطهارة ومرورًا ببقية أبواب العبادات وأبواب المعاملات.

 

وبين أنها عقيدة توقيفية، لا مجال للاجتهاد فيها، بمعنى أن الله عز وجل هو الذي أوقف رسوله – صلى الله عليه وسلم – على تفاصيلها، فليس لأحد أن يتكلم في شيء من أبواب الاعتقاد من قبل رأيه، لأن مبناه على تنزل الوحي على النبي – صلى الله عليه وسلم – فليس يجوز لأحد أن يجتهد في مبحث من مباحث الاعتقاد، بخلاف مباحث الفقه الأصغر، فإن باب الاجتهاد فيها واسع.

 

وقد قام الشيخ “وليد العلي” بشرح هذه الرسالة ذلك الشرح الموجز السهل السلس مع تضمين شرحه عددًا من الفوائد في بيان منهج أهل السنة والجماعة في العقيدة، وأن كل من لزم منهجهم فإنه سيُهدى ولابد إلى الوسطية التي تدعيها كل الفرق، وأنهم أي أهل السنة والجماعة لا يفرقون في نصوص الاعتقاد بين خبر آحاد ومتواتر، ولا يفرقون في إثباتها بين الأسماء والصفات، ولا بين الصفات بعضها مع بعض، فعندهم قاعدة: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات.

 

وبيان أن هذا المنهج الوسيط الذي انتهجه سلف الأمة الصالح قد انتهجوه دون تأويل ولا تفويض.

 

كما بين أن هذا الإمام الذي نتدارس عقيدته هو أحد من نشأ في أكناف مذهب الإمام مالك بن أنس، وفي هذه دلالة على أن أتباع الأئمة الأربعة معتقدهم صحيح ونهجهم مليح، وأنه توافقوا على هذه العقيدة نقلًا عن التابعين والصحابة والنبي – صلى الله عليه وسلم -.

 

والماتن هو عبد اللّه بن أبي زيد عبد الرحمان النفزي القيرواني أبو محمد. ولد بمدينة القيروان سنة 310 هـ / 922 – 923 م على الراجح. وكانت نشأته ودراسته بالقيروان، وهي في عصره وارثة تراث العلوم الشرعية، تحتضن كثيرًا من أعلام المذهب المالكي، وتخضع لسلطان العبيديين، ثم لسلطان بني زيري الصنهاجيين الذين بدأ حكمهم عندما انتقل أبو تميم المعز إلى مصر سنة 362هـ / 973م، واستخلف بلكين يوسف بن زيري بن مناد الصنهاجي. تلقّى ابن أبي زيد العلم بجامع عقبة بن نافع وبغيره من الأماكن كالبيوت الخاصّة حيث يُلقي شيوخ القيروان دروسهم في مختلف فنون العلم، وكان من أشهر شيوخه:

أبو الفضل العباس بن عيسى الممّسي (نسبة إلى قرية ممس بافريقية) وهو فقيه فاضل يجيد الجدل والمناظرة (ت 333هـ / 945م).

 

أبو سليمان ربيع بن عطاء اللّه بن نوفل القطان، من الفقهاء النساك، متبحر في علوم القرآن والحديث.

 

أبو بكر محمد بن محمد بن اللباد القيرواني، وهو حافظ جمّاع للكتب مع حظّ وافر من الفقه وكان ابن أبي زيد ملازمًا له مختصًا به.

 

أبو العرب محمّد بن أحمد التّميمي القيرواني المؤرخ الشهير وهو ثقة صالح عالم بتراجم الرجال.

 

وسمع ابن أبي زيد من كثير من الرواة أمثال: الحسن بن نصر السوسي، وعثمان بن سعيد الغرابلي، وحبيب بن أبي حبيب الجزري.

 

ولابن أبي زيد رحلة مشرقيّة، أدّى فيها فريضة الحج، وسمع فيها من بعض الأعلام، مثل ابن الأعرابي وإبراهيم بن محمد بن المنذر وأبي علي بن أبي هلال وأحمد بن إبراهيم ابن حماد القاضي. وكانت له عناية بالرّواية والإسناد، وأسانيده عالية في ما رواه من الأحاديث ومن الكتب الفقهية التي تعد من أمّهات المذهب وقد اعتمدها في كتابه “النوادر والزيادات” الذي ذكر في مقدّمته سنده إلى مؤلّفيها.

 

وكان علماء المغرب والأندلس عندما يرحلون إلى الحرمين للحجّ والزيارة يتوقّفون بالقيروان لمذاكرة علمائها وتبادل الإجازة والحوار في بعض المسائل الفقهيّة. وممّن لقي منهم عبد اللّه بن أبي زيد سمع منه وذاكره وناظره في مسائل علمية:

القاضي أبو محمد عبد اللّه بن إبراهيم الأصيلي المحدّث وكانت حجته سنة 353هـ / 965م وفيها أخذ عن أعلام القيروان والمشرق.

 

أبو عبد اللّه محمّد بن أحمد بن العطّار الأندلسي الفقيه المشهور وكانت رحلته سنة 383هـ / 995م.

 

أبو الوليد عبد اللّه بن محمد بن يوسف بن نصر الأزدي المعروف بابن الفرضي المؤرّخ الحافظ الأديب قاضي بلنسية، وكانت رحلته سنة 322هـ / 935م.

 

بفضل المناخ العلمي القيرواني والرّحلة المشرقيّة لابن أبي زيد والصّلات العلمية والمذاكرات، اجتمعت له ثروة زاخرة من النقول والمأثورات، ومُهّد بفضلها سبيل الاجتهاد الفقهي والنّظر العقلي، وبلغ رتبة علمية سامية قبل أن يتجاوز العقد الثاني من عمره ثم زكت ملكته الفقهية، ممّا هيأ له أن يؤدّي أكبر الخدمات لمذهبه المالكي. قال أبو الحسن القابسي عنه: (كان أبو محمّد إمامًا مؤيّدًا موثوقًا به في درايته وروايته).

 

وقال القاضي عياض: (كان أبو محمّد بن أبي زيد من أهل الصلاح والورع والفضل).

 

وقال الداودي: (كان سريع الانقياد إلى الحقّ).

 

وقال ابن تغري بردي: (كان واسع العلم كثير الحفظ ذا صلاح وعفّة وورع).

 

وقال عبد اللّه اليافعي: (الإمام الكبير الشهير شيخ المغرب، إليه انتهت رئاسة المذهب).

 

وقال الشيخ الدّباغ: (كان متفنّنًا في علوم كثيرة، منها علوم القراءات وتفسير القرآن وحديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ومعرفة رجاله وأسانيده وغريبه، والفقه البارع، وآثار العلماء وكتب الرقائق والمواعظ والآداب).

 

أمّا أثره في خدمة المذهب المالكي ودعمه فهو يتجلّى في مجالات عدّة، كالتدريس والمذاكرة والتأليف والاجتهاد والفتوى، وقد أهّله لخوض هذه المجالات زاده الوافر من المعرفة الشرعية والثّقافة الإسلامية، وسعة اطلاعه على الآثار والروايات المتعلقة بالفروع المالكية، والنّقول عن إمام المذهب وأصحابه.

 

وكان الكثير من طلبة العلم يراسلونه مستدعين للإجازة، فيكتب إليهم ويجيزهم، وأخذ عنه العديد من التلاميذ ببلاد إفريقية والمغرب وغيرها من حواضر العالم الإسلامي.

 

وكان المعوّل في المجال الفقهي في المراكز المالكية على ثلاثة من الكتب حظيت باهتمام الدّارسين وهي:

النوادر والزيادات على ما في المدوّنة من غيرها من الأمّهات.

مختصر المدوّنة الكبرى للإمام سحنون.

الرّسالة الفقهيّة.

 

فالكتاب الأوّل يقول عنه ابن خلدون: (جمع ابن أبي زيد جميع ما في المذهب من المسائل والخلاف والأقوال في كتاب “النوادر” فاشتمل على جميع أقوال المذهب، وفروع الأمّهات كلّها في هذا الكتاب).

 

ولئن كان الكتاب الثاني من المصنّفات العديدة التي وضعها أعلام المذهب على المدوّنة الكبرى شرحًا وتلخيصًا وتهذيبًا وتعقيبًا، فإنّه كان من أهمّها وأكثرها ذيوعًا في ربوع المراكز المالكية.

 

والكتاب الثالث، هو أشهر كتب ابن أبي زيد وأوسعها انتشارًا لدى أتباع المذهب، وهو رسالة تلخّص في مقدمتها أحكام العقيدة وفي أبوابها أحكام الفقه المالكي، وهي باكورة إنتاج ابن أبي زيد ألّفها في سنّ الحداثة سنة 327هـ / 939م. وقد استقطبت هذه الرسالة اهتمام كثير من الشرّاح.

 

وكانت الرّسالة ضمن المقرّرات التي تدرس بالقرويين والزّيتونة وغيرهما من مؤسّسات التعليم الديني بالبلاد التي ينتشر فيها المذهب المالكي.

 

وقد عدّ الامام أبو العباس أحمد القرافي (ت 684هـ / 1286م) الرسالة من جملة خمسة كتب عكف عليها المالكيون شرقًا وغربًا، وذلك في مقدمة كتابه “الذخيرة”. والملاحظ أنّ الرسالة كانت مع “النوادر والزيادات” و”مختصر المدونة” من أهمّ المصادر المعتمدة لدى أغلب من ألّف في الفقه المالكي أو في الفقه المقارن بعد عصر المؤلّف ابن أبي زيد.

 

أما بقيّة مؤلّفات عبد اللّه بن أبي زيد فهي التالية:

الاقتداء بأهل السنّة – البيان في إعجاز القرآن – تفسير أوقات الصلاة – التنبيه على القول في أولاد المرتدّين – الثقة باللّه والتوكّل على اللّه – تهذيب العتبية – الذّبّ عن مذهب مالك – ردّ السّائل – إعطاء القرابة من الزّكاة – أصول التّوحيد – الردّ على القدرية – رسالة إلى أهل سجلماسة في تلاوة القرآن – المناسك – طلب العلم – فضل قيام رمضان – حماية عرض المؤمن – كشف التلبيس في الردّ على البكرية – رسالة في من تأخذه عند قراءة القرآن والذكر حركة – المضمون من الرزق – الحبس على أولاد الأعيان – النّهي عن الجدل – الموعظة والنّصيحة – الموعظة الحسنة لأهل الصدق – الوسواس – مناقضة رسالة علي بن أحمد المعتزلي البغدادي – المعرفة واليقين – التبويب المستخرج. وفي المتحف البريطاني قصيدة في البعث منسوبة إلى ابن أبي زيد.

 

وقد كان يقول الشعر ويجيده، وأثرت عنه مراثٍ نظّمها بعض شيوخه كابن اللباد وأبي الفضل الممّسي وكان النّاس يقصدونه للاستفتاء في الوقائع الطارئة لمعرفة أحكامها الشّرعيّة، فيفتيهم بالمذهب المالكي، ونجد كثيرًا من كتب النوازل تحتفظ بفتاويه، مثل الحاوي لابن عبد النور، وموسوعة “المعيار المعرب” لأبي العباس أحمد الونشريسي.

 

وكانت وفاة ابن أبي زيد في شعبان سنة 386هـ (سبتمبر 996م) على الصّحيح. وصلّى عليه أبو الحسن القابسي بالريحانية في جمع غفير ودفن بداره، وتضمّ اليوم داره روضة لتعليم الصبيان وقد رثاه كثير من أدباء القيروان.





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى