Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار وثقافة

جمال فتحى يكتب: تأمل الذات فى مرآة الوجود.. قراءة فى عوالم خُلُود المُعَلاّ الشعرية

ثقافة أول اثنين:


 


لكل شاعر حقيقى وأصيل عالمه الخاص، يرسم ملامحه على مهل وبالتدريج قصيدة فقصيدة، وديوانا تلو الآخر، يرفع سقفه بدأب ويطلى حيطانه بلغته الخاصة ويزين جدرانه بتصويره المدهش، ويرفع فى أركانه صوته المتفرد أذانا لصلاته الشعرية الصادقة، أما الشاعر الذى لم يهتد لصوته الخاص، ولم يحقق فرادته الشعرية؛ فستغيب حتما ملامحه فى ملامح العابرين على درب الشعر، وهو ما تؤكده مقولة د. عالى سرحان القرشي:” إن الشاعر حين ينشئ قصيدته يروم منها امتدادا لذاته يحمل تميز شخصيته وتفردها” (طاقات الإبداع/ إصدارات النادى الأدبى الثقافى بجدة، 2015)




وعندما ننظر فى نتاج الشعراء العرب المعاصرين وتحديدًا الجيل الذى بدأ نشر أشعاره مع بداية التسعينيات فى كل البلدان العربية نجد بين تجاربهم الكثير من القواسم المشتركة والقليل من التفرد؛ فالكثير منهم كرروا واجتروا وتناسخوا فربطت بين قصائدهم صلات قوية كأنها ولدت جميعا لأب واحد! قلة قليلة من الشعراء فطنوا لذلك الفخ بموهبة صادقة ووعى ثاقب؛ فذهبوا بالشعر إلى أعمق منطقة فى النفس؛ وأنتجوا نصوصا أصيلة متفردة، ليس من الصعب كشف هوية أصحابها والاهتداء إلى بصمتهم وسط كل هذا التكرار والتقليد حتى وإن لم تكن كتاباتهم موقعة بأسمائهم… ويمكن عد الشاعرة العربية ( الإماراتية) خُلُود المُعَلَّا(2) واحدة من القلة التى قبضت منذ باكورة إنتاجها على صوتها الشعرى الذى يصعب تقليده؛ لأنه وبكل بساطة صوتها هى وليس صوت غيرها.


وسيدرك من يقرأ أعمال المُعَلَّا التى أصدرت أول دواوينها فى أواخر التسعينيات( هنا ضيعت الزمن/ 97) أن لخلود عالم خاص بها بدأت تحفر مساره منذ سطرها الشعرى الأول، ومن ثم راحت تعبد طرقاته للقارئ بيقين صوفى لافت.. وإذا كان لكل عالم شعرى مفتاح ما وربما عدة مفاتيح أو بوابات ذهبية تختصر المسافة إلى مروج وبساتين هذا العالم؛ ففى نظرى أن لدى خلود عدد من هذه المفاتيح أو الشفرات أو بوابات الدخول، وتتعدد الشفرات وتتنوع؛ فمنها ما قد يكون جملة شعرية كاشفة ومضيئة تمر كبرق خاطف، أو هاجس ما / ” قلق مستديم” يلح على الشاعرة وتبوح به القصائد مرارا بقصد وبدون أو ربما مفردة تتكرر برهافة وبميزان محسوب كأنها شكوى من هم داخلى تلح بالألم المتصل على جسد القصيدة.


             


(التماهى مع الطبيعة)


 


تقول خلود “أقف على حدِّ المدِّ/ أنصت للكون بإمعان” (قصيدة، ملاذ/ ديوان- أمسك طرف الضوء) و لنتأمل معا تلك الجملة الفعلية القصيرة ” أنصت للكون بإمعان” هذه الجملة الشعرية على بساطتها ورهافتها تختزن وتخفى الكثير من روح الشاعرة وعلاقتها بالشعر وبالعالم وهى مفتاح حقيقى لبوابة رئيسية من بوابات المرور لمن يريد أن يتوغل فى عوالم المعلا الشعرية الفسيحة، إذ تولد تجربة الشاعرة من رحم التفاعل الصادق المتأمل لمفردات الوجود والسياحة الروحية فى الكون اللانهائي، وبتتبع إنتاج الشاعرة وبقراءة لعدد من دواوينها: ربما هنا، وأكتفى بالسحاب، أمسك طرف الضوء، دون أن أرتوى (مختارات).


 


 


نجد أن خلود فى كتاباتها بشكل عام لاسيما فى ديوانها “وأكتفى بالسحاب” تفر من صخب العالم الغارق فى ماديته وتهجر زيفه وتفاصيله اليومية الجافة لتأوى إلى صدق الطبيعة ودفئها وتهيم فى آفاقها اللانهائية وتعانق مفرداتها البديعة وتتماهى مع عناصرها المكانية والزمانية لتصير جزءا من تلك الطبيعة كأنها حبة رمل فى صحراء شاسعة أو قطرة ماء فى نهر جار أو زهرة برية فى غابات بعيدة! تغلف هذا الالتحام بتفاصيل الوجود وعناصر الطبيعة روح صوفية عذبة تهوى العزلة وتسعى نحو انعتاق ما!


ومن الطبعى أن تصاحبك فى رحلة القراءة كثيرا مفردات مثل: السماء، الريح، المطر، الغيم، الجزر، المد، البحر، الموج، الشجر، الجناح، الرذاذ، الشتاء، الليل، الرمل، الصحراء، الجبل، الفضاء، الخريف… إلى آخر هذا القاموس الذى يشكل بنية لغوية أساسية فى نسيج تجربة المعلا، ومن ثم فإن خلود تعيد الصلة بين الشاعر والكون وترد نبض الطبيعة إلى القصيدة العربية بعدما مالت الكثير من الكتابات الشعرية المعاصرة إلى الجفاف والذهنية، وأهملت الجانب الوجدانى فيها لصالح الذهنى والجاف والتقريرية الفقيرة خلال محاولتها تشعير” اليومى والمعيش والمتداول”.


تقول الشاعرة :


“أنظر من نافذتى الضيقة


فأرى الكون كاملا”


                  ( قصيدة، حرة تماما / ديوان- ربما هنا )


وتقول كذلك:


“حين تمتلئ السماوات بالغمام


أهرع إلى الكون بكل ما لدى من محبة”


             (قصيدة، فى الوقت الموعود/ ديوان- أمسك طرف الضوء)


وتقول:


“تماهت روحى بحس الطبيعة


وها هى تسير كجدول نحو الحرية”


                 ( قصيدة، تماه / ديوان- ربما هنا )


هذا التماهى الواضح مع الكون والانصهار فى ألوان الطبيعة حد التحول جدولا “يسير نحو الحرية” أو ” الانعتاق” يشكل فيما أظن متن تجربة خلود المعلا الشعرية فى الأعمال المذكورة ولحنها المؤثر فيما تلازمه وتتداخل معه عشرات التنويعات من النغمات المصاحبة؛ حيث تؤسس الشاعرة لعلاقة واعية ومقصودة بينها وبين الكون بكل تفاصيله، ليس هذا فقط ولكنها تحول هذا الكون المترامى إلى مرآة صافية تعكس عليها همها الداخلى وشواغلها الذاتية، وتطرح على صفحتها تساؤلاتها وتبوح لها بحيرتها الدائمة وقلقها الشعري” المستديم” بتعبير الشاعرة نصا: ” يليق بى أن أستلقى على قلقى المستديم” ( قصيدة، هزيمة تليق بقلبى   /ديوان – ربما هنا)      

خلود
 


 


 ( حوار مفتوح)


إن حوار الشاعرة مع ذاتها ممتد ومفتوح لا ينقطع أبدا فى كل دواوينها، لكن دائما يتم عبر وسيط ” كوني” تختاره خلود وتنتقيه كل مرة من مفردات الطبيعة وفق حالتها الشعرية وتستبدله أحيانا فتارة يكون الشتاء وأخرى البحر وربما الشمس أو السحاب فهنا تقول مثلا: 


“أريد أن أفهم لغة البحر


كى أنام طويلا بين الجزر والمد”


                       (لغة البحر / ربما هنا)


ونقرأ : ” الشمس تصر على قسوتها / سأرافق السحاب” وتقول كذلك: “الشمس غافية على صدرى / لا توقظوها” وفى قصيدة أخرى : ” تحدثنى سحابة عن الجفاء ” و الشاعرة فى هذا الحوار المتصل مع مفردات الوجود تتحدث مرة وتنصت مرة وتتأمل مرات! فنستدعى معها حال النبى سليمان الذى أوتى منطق الطير والحيوان فتحدث إلى الهدهد وأنصت إلى حديث النمل وسخر الله له الريح تجرى بأمره؛ فى وضع أقرب للهيمنة على مفردات الوجود ولكن هيمنة الشاعرة هنا تأتى من فرط التماهى بين روح الشاعرة وروح الطبيعة حولها؛ فها هى بعد أن رافقت السحاب تقول:” أفكر فى الغيم، فيمطر قلبى عشقا “”، إنها تماهت مع الغيم فأمطر قلبها بعد أن تبادلت مع الغيم المواقع والأدوار.


يمكننا أيضا أن نتأمل حضور معطيات وجودية وطبيعية أخرى مثل: ( الشتاء، الجزر والمد ) لندلل على تصورنا عن العالم الشعرى الذى تنشغل خلود برسم حدوده وملامحه، فهى تستعير من الكون مفرداته لتحاورها وتسألها وتفرغها من دلالاتها الراسخة أحيانا لتلبسها دلالات خاصة جديدة تخصها وحدها وتسبغ عليها خصوصيتها الشعرية حيث يتحول الشتاء مثلا إلى شتاء خاص بالشاعرة مكتسبا أبعادا جديدة ويتحول الجزر والمد – تلك الظاهرة الجغرافية الطبيعية- إلى ظاهرة شعرية تحدث لأسباب تخص الشاعرة وحدها! 


تقول خلود:


سيأتى الشتاء أخيرا


فلأعد إلى البيت الآن


وأتهيأ.


                 ( تمن /أمسك طرف الضوء)


بينما تقول:


“حين بهتت روحي


عرفت أن الشتاء شارف على النهاية”


                    ( فراق الشتاء/ أمسك طرف الضوء)


وهنا تبوح الجملتان بالكثير فالشتاء فى الأولى هو الفرح المنتظر وهو الأمل الذى ترقبه الشاعرة بيد أنه هو الوطن أو الخلاص الذى ” تتهيأ” له الشاعرة وتعانقه بعد انتظار وترقب ورجاء تكشف طبيعته مفردتها” أخيرا”.. ولكى تدرك ما معنى “الشتاء” وجوهره بالنسبة للشاعرة تأمل تعبيرها ” بهتت روحي” لتدرك أن الشاعرة تقريبا تتماهى مع الشتاء الذى يعد خيطا أصيلا فى نسيج تجربة الشاعرة.. والشتاء هنا يتجاوز فى معناه وحضوره حدود كونه فصلا من فصول العام بسماته المناخية المعروفة من برد وأمطار وغيم لتشعر أنه تحول إلى كائن حى وربما صديق حميم أو رفيق مخلص.

جمال
 


 


 (حضور القلق)


وللقلق حضور خاص جدا فى تجربة شاعرتنا وقلقها ” المستديم” تروضه بالكتابة دائما، أو ( تغرز فيه إبر قصائدها) حتى إنها ألفته أو ألفها فتحول من شوك يقض مضجعها ويخمش صفاء سلامها النفسى إلى وسادة أو سرير مريح تستلقى عليه بطمأنينة لافتة، على أن هذا القلق يأخذ فى كل ظهور له شكلا ويبدو فى كل مرة بوجه مختلف! 


تقول خلود:


• الليل فى أوله و لأنقذنى من قلقى المستديم


شرعت بممارسة طقوسه الليلية


بدأت أحصى شقوق الجدار الذى أستند إليه


غرزت فيه إبر قصائدى البكر


استعنت بالسماء فى هذه الساعة من السكون


حاولت أن أحمى مخيلتي


فتحت النوافذ


الكون بدا محيطا من أرق”


  ( محيط من أرق/ ربما هنا)


ويبدو هنا كما أشرنا أن خلود تحول الكون مرآةً تعكس عليها شواغلها فقلقها المستديم صار فى نهاية الأمر قلقا كونيا بعد أن بدا” الكون ..محيطا من أرق” وكأن الكون استعار قلقها أو شاركها فيه ولعله كان من البداية قلق الكون قبل أن يتسرب إليها!


وقلق خلود ” مستديم” كما اعترفت هى والتعبير ذاته تكرر حرفيا فى أكثر من نص، وهنا نعود لمسألة مفاتيح عالم خُلود المُعلا الشعرى إذ يعد “القلق” أحد تلك البوابات الكبيرة التى تختبئ خلفها الشاعرة – إن جاز التعبير- حتى إنها تتماهى مع قلقها وتعترف “لست سوى قلق” ( ارتداد / أمسك طرف الضوء)؛ فالقلق مهيمن وحاضر فى نصوصها بشكل لافت ومتنوع ويصل كما رأينا إلى أن يتحول معادلا لذات الشاعرة كما أقرت فى سطرها السابق ” لست سوى قلق” .. وقلق المعلا أنبت الكثير من الأسئلة والتساؤلات الملحة التى ظلت تلقيها الشاعرة بذورا فى أرض كتابتها الطازجة.


 


 

ربما هنا
 


   ( ماذا لو؟)


يقول الناقد د. محمد السيد اسماعيل فى كتابه (العابر والمقيم )، “يظل السؤال هو المفجر الأول للشعر لما ينطوى عليه من طاقة الدهشة ومواجهة الحياة كما لو كنا نراها للمرة الأولى” ( ط1 الهيئة العامة المصرية للكتاب/ 2018)


(3) وتتساءل خلود:


ماذا لو قفزت من ذاكرتي


ومشيت بمحاذاة الماضي


ماذا لو وقفت على شفا الوقت؟


             ( تحريض/ أمسك طرف الضوء)


وهنا يبدو القلق كشبح يقف خلف السؤال عن ” الزمن” الذى يقبض ماضيه على ذاكرة الشاعرة فيدفعها للتفكير فى طريقة للفكاك منه بالسير بمحاذاته سيرا متحررا من سطوته أو حتى المغامرة بالوقوف على “شفا الوقت” .. والسؤال بطل حاضر دائما وأبدا فى دواوين الشاعرة ،وفى ديوانها البديع ” وأكتفى بالسحاب” على سبيل المثال تخمش المعلا جدران الحيرة بأظافر السؤال مرارا و تحلّق بأجنحة الخيال فى المسافة الشاسعة بين الأرض والسماء، وتصاحب الليل والنهار والضوء والعتمة، فى رحلة طرح متواصل لأسئلة وتساؤلات، قبل أن تكون محاولة لتقديم إجابات وتأكيد حقائق يقينية؛ فها هى تسأل فى قصيدتها ( قارب) عمن يأخذ بيدها ” لا أجيد الإبحار، من يأخذ بيدي؟” .. وتواصل التساؤل عن باب صالح للدخول: “تتردد الخطوة، تسأل / أى باب؟، قصيدة (أبواب) ..، أما فى قصيدة (شكوى ) فتزرع سؤالها فى رحم المفارقة لتترك القارئ غارقا فى دهشته : 


من أى تعب أشتكي؟


ظلم العالم/


حرائق الشمس/


مرارة القلق/


أم وجع البال كل ليلة؟/


أيها السهر الصديق/


ماذا أفعل بكل هذه الأنات الخافتة المطمئنة؟!


وكعادتها هنا تحيك خلود المعلا ” المفارقة” بمهارة شعرية لافتة فـ “الأنات” خافتة لكنها “مطمئنة” رغم حيرة صاحبتها.. بل إن “الأسئلة” تتحول عند خلود أيضا إلى بشر تتأملهم و بيوت تسكنها ومدائن تجوبها ويأخذ السؤال مساحة عظيمة ولافتة فى قلب تجربتها الشعرية ومن ديوانها” ربما هنا” وتحديدا قصيدة ” محيط من أرق” نقرأ: 


“أرسم أسئلة على شكل بيوت


بشرا لا عيون لهم


مدائن مكتظة تصيبنى بالدوار”


وهنا يتحول السؤال بكل ما يحمله من أجواء القلق الدائم والحيرة والانشغال المترقب للإجابة إلى (بيت) والذى هو رمز أصيل ومرادف لكل معانى الأمان والاستقرار والخصوصية فى توظيف أكثر من رائع لقدرة المفارقة على تفجير الدهشة والقبض على جوهر الشعر،! وفى قصائد متفرقة من الديوان ذاته تسأل: “كم قصيدة ما زلت أنتظر؟”، وفى ديوانها (وحدك) تسأل:  “أمرار فى الدفقة/ أم هى الكهولة فى القلب؟” قصيدة (كهولة) ..أما فى ديوان ” هاء الغائب” فتسأل فى قصيدتها ” مدفوعة بمحبتي” 


قائلة: 


“أما آن للروح أن تستكين/


ليخرج قلبى إلى مبتغاه/


من غير حبيبى تنكشف له الأحوال/


روحى نصفها نأي/ وكلها عشق/ فمتى يدخل ديارى ويستقر؟”


وهكذا يتحول السؤال فى عالم خلود الشعرى إلى ” لون” رئيسى يدخل فى كل مكونات اللوحة النهائية لذلك العالم الذى تتضافر كل الدواوين فى رسمه مهما كان الدافع وراء السؤال! وكما رأينا فإن الأسئلة متنوعة من ناحية الأسلوب بعضها يفجر طاقة التعجب والاندهاش وبعضها لتقرير حقيقة ما أو إنكارها وبعضها يبحث عن إجابة بعيدة أو يلقى فى وجه القارئ بفداحة المفارقة!


                (عالم متشابك)


إن عالم خلود المعلا الشعرى عالم متشابك وتربط خيوط الرؤية الشعرية لديها بين مكونات هذا العالم وكذا بواباته التى تتبادل شفرتها، فمن الأسئلة التى تتحول مدائن نستطيع القفز إلى حقيقة هذه المدائن؛ إن (المدينة / المدن) عند الشاعرة وتفسير حضورها فى الديوان ذاته وفى بقية أعمالها يضع فى أيدينا مفتاحا جديدا لعالم خلود الشعرى الذى ترسمه بـ ” السفر” إلى “المدن” والبلاد واكتشافها والحقيقة أن بين خلود و” المدينة” أمر ما أكبر من العشق والشغف؛ فللمدينة هنا أو البلد أو حتى الأحياء القديمة والشوارع معنى يتمدد وتتسع تأويلاته لما هو أكبر من المدن التى زارتها فى كل البلدان؛ حيث يطغى عشقها للسفر وتأمل الخلق والبلاد التى تجلس فيها القصائد على الطرقات، وقد أعلنت خلود عن ذلك صراحة أو اعترفت لقارئها كأنما تستمتع بذلك الاعتراف بأنها شاعرة تعشق السفر والشتاء، وبلادا “لا تعترف بالأسماء” ( امرأة/ وأكتفى بالسحاب)


وها هى تقول:


“أدخل العالم من مدنه القديمة


ولا ألتفت


فى المدن القديمة ،


تجلس القصائد على الطرقات”


              ( المدن القديمة/ وأكتفى بالسحاب)


 


ففى الديوان ذاته تقول: ” مثل مدينة تفرش سمواتها للتائهين”: قصيدة (أكثر)


 ونقرأ:” نهر هذه المدينة يشبه حريتي” قصيدة (شبه) “، كما نقرأ فى قصيدة ( على الماء) قولها :” فى بلاد يسكنها الغيم/ أطيل الجلوس على الضفاف”، بينما تسأل “أى مدينة هي؟”، قصيدة (مدينة) ..وتعود لتقول: ” مدينة تتزين كل مساء / تبدل فصولها”، قصيدة (هكذا)، 


إذن تحضر البلاد والمدن حضورا مشعا ومتعددا بل وطاغيا أحيانا ؛ فهى الرفيق والصديق بل والمعشوق أحيانا، الذى يحادثها وتحادثه ..تقبل عليه ..تعانقه.. تسأله.. فالمدن عند خلود بشر والبشر مدن وتأمل الكون بمعالمه وبشره وبلاده وأوطانه و”الإنصات له” رحلة صوفية زاخرة بالتأمل ساعية للتحرر، وهى مضنية وممتعة فى آن، والمدينة هنا كما أشرنا مفتاح ذهبى يفتح لنا بوابة من بوابات عالم خلود فندخل عالمها تماما كما تدخل هى للعالم من مدنه القديمة كما قالت” أدخل العالم من مدنه القديمة”.


 

الشاعر خلود
 


إن السفر بمعناه الواسع هو وجه من وجوه الشاعرة وباب من أبواب تجربتها العريضة ..والسفر ربما يكون فى البلاد والمدائن وقد يكون سفرا عكسيا إلى داخل النفس ودروبها والروح ووديانها وقد يكون فى ” صمت الأشياء” فهل وعت الشاعرة لجملتها الكاشفة ” السفر خلود/ لنفس جفت روحها” (أوراق سفر/ هنا ضيعت الزمن) التى صنعت ( ربما بشكل غير مقصود) وبتعبير صادق تماهيا بين (السفر/ خلود) فدل كلاهما على الآخر.. إن الروح الهائمة الصوفية التى تهيمن على كتابات الشاعرة تمنحنا حق تأمل تلك الجملة العفوية التى تتكون من مبتدأ وخبر ( السفر خلود) باعتبارها إشارة كاشفة لما هو أكبر من معناها المباشر والقريب.. فخلود هنا هى الشاعرة ذاتها وليس البقاء الذى هو ضد الفناء والتلاشى والسفر هو وجه من وجوهها أو بعض من ذاتها التى دائما ما تبحث عنها الشاعرة فى مرآة العالم.


              (لعبة التأرجح بين حدين)


علينا أيضا أن نتوقف أمام لعبة شعرية لافتة ومتكررة تمارسها الشاعرة بمهارة شديدة وتنوع واضح وذلك خلال رحلتها وحواراتها المتواصلة مع مفردات الوجود و طرحها المستمر لشواغلها الذاتية وهى ما يمكن أن أسميه – إذا جاز التعبير- ( التأرجح بين حدين) هذا التأرجح أراه سردابا عميقا يفضى إلى دهشة شعرية خبيئة فى غالب الأحوال؛ فالشاعرة تتأرجح بوعى وتنهى اللعبة فى كل مرة إما بسؤال يحمل على ظهره المفارقة الفادحة أو بحوار مفتوح بين ضدين من أضداد الوجود يكشف عن صراع درامى بين مواقف الحياة واختياراتها المؤرقة، و لذا سنجد فى الكثير من قصائدها حضورا متلازما ومتعمدا لـ ” العتمة والنور / الصحو واليقظة/ الطمأنينة والقلق / السكينة والتشظي/ الغليان والجليد/ المد والجز.. وهكذا إلى آخر الأمر ” 


ومساحة تكرار اللعب على الحدين تجعل الأمر سمة من سمات الكتابة وأداة من أدوات تحقيق الرؤية وبوابة أو شفرة هامة تصل بنا عبر ممرات القصائد إلى براح الرؤية النهائية.. ولنقرأ مثلا قولها:


” غليان تحتد جليد الجسد


                والقيظ يعود” (  لكنه/ أمسك طرف الضوء)


فهكذا تقرر أن يعانق النقيضان/ الضدان بعضهما كما فى ” غليان تحت جليد الجسد”، وهى تفعل ذلك فى كل مرة بشكل مختلف لتكسر أفق التوقع لدى القارئ وكأنها تؤكد أن خزانة أدواتها مليئة بالحيل والأساليب.. فمرة تنهى التأرجح بسؤال قاس أو بحقيقة مؤلمة أو بمفارقة تهز وجدان القارئ وتشعل ذهنه للبحث فى علاقة أطرافها!


تقول:” القصيدة تنسدل فوقى مفتونة/ أنام مسكونة بالتشظي” ( سر فوضاي/ أمسك طرف الضوء) وقد أشرنا آنفا للتناقض الكبير بين النوم وما يحمله من راحة وسكينة وطمأنينة وبين التشظى المساو للضياع حيث تمارس هنا أيضا الشاعرة لعبتها المفضلة فى الـتأرجح المثير بين الحدين لتترك القارئ فريسة السقوط فى فخ الدهشة 


وفى الديوان نفسه تقول فى قصيدة” فقدان اسم”:


 ما إن يتسع العمر حتى يضيق/ 


فى الليالى ذاتها تجزأت مرات شتَى/ 


مدِّى ضيع جزره” 


وهنا العمر يتسع ويضيق فى جملة خاطفة والمد يضيّع الجزر والأضداد تستمر فى “ديالوج” مفتوح تديره الشاعرة بطرق شتى وكأن تجربتها الشعرية أو رؤيتها ككل عربة قطار تسير طوال الوقت بين الحدين / الضدين اللذين يحدان جانبى طريقها إلى النهاية.


تقول مثلا فى الديوان ذاته قصيدة” بلا مبرر” : 


بلا مبرر تحرق الشمس المكان


آه لو يتسلل المطر إلىِّ


لأطفئ بشفتى ما بقى”


وهنا لابد أن نسأل كيف للشاعرة أن تتمنى تسلل المطر بينما الحال هو حضور حارق للشمس ولنجد إجابة مريحة علينا أولا العودة لتأمل لعبة التأرجح المفضلة للمعلا..


ولنعود لمثال سابق فارق جدا فى كشف غرام الشاعرة بتلك اللعبة من قصيدة ” مياه العطش” من الديوان ذاته.. فلعبة المتناقضات بدأت هنا مبكرا فى صياغة العنوان والتى تنهيها بقولها:


” المياه التى تحيط بقلبى لا تروى/ لا شيء يملأ المكان سوى عطشي” ولعبة الأضداد هنا كاشفة و لا تحتاج للمزيد من الحديث.. هى نفسها تقرر ضمنا أن رحلتها بين الأضداد شبه دائرية حين تقول فى ذات الديوان فى قصيدة (تنفس):


             ” من النهار إلى الليل


 من الصيف إلى الشتاء


 من الصخب إلى السكون


 من الهجير إلى النعيم


   كم هو رائع أن أعود إلىّ”


..وأخيرا نرصد لعبتها فى قصيدة” كشف” عندما تقول:


“رأيتك فى الضوء


رأيتني


كادت ملامحنا تشتعل


وحده الغياب 


كشف سر العتمة بيننا”


 

ديوان
 


وهنا تلعبها بطريقة أخرى حيث الضوء والعتمة نقيضان يتصارعان فى النص على مساحة الحضور فى حياة الحبيبين ويفصل بينهما الغياب..


أعتقد أننا لو تتبعنا آثار تلك اللعبة سنجدها بارزة فى أغلب الدواوين وربما لا تحتمل مساحة الدراسة رصد الشواهد كافة وأعتقد أن الفكرة باتت واضحة ونكتفى برصد بعض الشواهد من دواوين أخرى دون الخوض فى التأويل.. فمثلا فى ديوان( ربما هنا) نقرأ من قصيدة (لا يسمعنى أحد) قولها” طرق الصعود تضيق بي/ تأخذنى إلى سقوط أكثر اتساعا” فنلاحظ فقط الديالوج النفسى بين ( الصعود / السقوط و تضيق/ اتساعا) وفى الديوان ذاته تجمع بين الوجود والعدم فى قولها” فى الوجود أشياء أفضل / حان لى أن أسعى إليها/ .. كلما أزلت العدم من حولي/ وملأت خواءه بالصدق والأصدقاء”.. وفى ديوان “وحدك” تقول: فى قصيدة ” اكتشاف”: يد تسللت أشعلت شمعة/ فاكتشفت أننى كنت أراك فى العتمة” وهكذا دائما وأبدا تحضر الأضداد وتتحاور المتناقضات فى ديالوج شعرى بديع ..نعم إنها بالفعل لعبتها المفضلة.               


             (بقلب محتشد بالضوء)


لا نستطيع أن ننكر مساحات السواد وبقع العتمة ودوائر الظلام التى تتسع وتتزايد من حولنا باستمرار وتبتلع الكثير من البياض والنقاء والنور ويبدو أن شاعرتنا تؤمن أن” كل نور لا يزيل ظلمة لا يعول عليه” ( من رسائل ابن عربى، أحد أشهر رموزالمتصوفة ولقبه أتباعه بـ “بالشيخ الأكبر). لذا فقد قررت صراحة وبشكل قاطع وأعلنتها هكذا بثبات لافت ” سأظل أسير بقلب محتشد بالضوء” (دونما اكتراث/ وأكتفى بالسحاب) و العلاقة بين النور أو الضوء بكل تجلياته ومرادفاته وتنويعاته كالنهار ،الشمس ،البياض ..وغيرها من المعانى وثيقة الصلة ببعضها وبين عالم الشاعرة علاقة بارزة وقوية وحاضرة؛ فتكرار حضور الضوء بأشكال متعددة والإلحاح عليه لا يمكن إحالته ” للمصادفة الشعرية” بل إنه وكما أشرنا سابقا فإن ” التكرار” الواعى عند خلود فى حد ذاته ” شفرة” من شفرات التأويل سواء كان التكرار لجملة أو فكرة أو صورة أو مفردة وحضور النور أو الضوء المتكرر يسير بنا نحو قيمة عليا واضحة، بل وشاغل رئيسى يلح على الشاعرة ويؤرقها دائما كأنها رسالة مقدسة لابد أن توصلها الشاعرة حتى حين تلوح النهايات فى الأفق أو تلك النهايات التى تقررها الشاعرة بذاتها ولنقرأ معا: 


“أنا من يقرر النهاية


وحين أختم سيرتي


سأخرج من هذ العالم


بجناحين شفيفين”


           محدثة رذاذا مضيئا” ( حين أقرر النهاية/ ربما هنا)


وكأنها جندى فى المعركة ينير بأنفاسه الأخيرة وبآخر نقطة دم فى عروقه الطريق للعابرين مدافعا عما يؤمن به إلى الرمق الأخير وهى هنا تنثر الرذاذ المضيء فى وجه العالم حتى وهى تغادره، وفى قصيدة أخرى جاء منها عنوان الديوان نقرأ: 


 ” يستفيق حنين/


أحاول أن أقتفى أثره/


أمسك طرف الضوء/


وفى يد الريح/


ألمح طرفه الآخر” ( يد الريح/ أمسك طرف الضوء)


ومن يمسك طرف الشيء هو الذى يبحث عن آخره أو يتعلق به للنجاة به أو الحفاظ عليه من الضياع والإمساك بطرف الضوء هو محاولة الحفاظ أو الوصول إلى كل الضوء وتتبعه والإمساك به ولو من أجل العالم فقط. 


 

واكتفى
 


*** (صلصال اللغة)أما اللغة الشعرية التى تبنتها خلود المعلا وكما دلتنا الفقرات التى سقناها فى طى المقال فتشعر أنها أقرب لأن تكون صلصالا مطيعا تشكله الشاعرة فى كل نص على هيئة جديدة ومن ثم تحاول أن تنفخ فيه من روحها، أو قطة أليفة تدعوها الشاعرة فتلبى النداء بنعومة مدهشة، وهى لغة رائقة وشفيفة تكشف كثيرا وتخفى أكثر وتنسجم تماما مع مضامين القصائد والشواغل التى تطرحها وتربطها صلات وثيقة بالعالم الذى تبنيه الشاعرة فى كتاباتها وكأن تلك اللغة هى ابنة هذا العالم ومن صلبه واتسمت فى مجملها بالتكثيف الشديد الذى وصل حد “التقطير”، فهى سطور قليلة ومكثفة لكنها تقول أكثر مما تقوله عادة خارج المعجم الشعرى وهى ميزة الشاعر الأصيل دائما فى تعامله مع اللغة ويطابق هذا مقولة أدونيس فى كتابه “سياسة الشعر” ( دار الآداب البيروتية / ط 1985) عندما يقرر أن ” العمل الشعرى تكمن قدرته فى جعل اللغة تقول أكثر مما تقوله عادة “، فيما كان للمفارقة بأشكالها وتجلياتها دور كبير فى كشف الفجيعة أحيانا مثل قولها: 


“المياه التى تتدفق حولي


لا مجرى لها


المياه التى بين يدي


لا أراها


المياه التى تحيط بقلبي


لا تروي


لا شيء يملأ المكان سوى عطشي”


فكل هذا الماء المتدفق بين يدى الشاعرة وحول قلبها ولا يملأ المكان سوى عطشها؛ يا لها من مفارقة مؤلمة! حتى عنوان القصيدة مفارقة تحمل الكثير من الدهشة فى ذاتها وهو” مياه العطش” وهو العنوان الذى تحتاج أن تقف أمامه طويلا لـ ” تتشرّبه “، واتكاء المعلا على المفارقة هو وجه من وجوه استجابتها للشعرية الحديثة وعن هذا يقول أستاذنا الدكتور محمد عبد المطلب: “إن توجه الشعرية لدائرة المفارقة هو توجه إلى نوع من الصدام الدرامى العميق الذى يجاوز المعانى الأول إلى المعانى الثواني” وذلك فى كتابه (النص المٌشكل) الصادر عن سلسلة كتابات نقدية، الهيئة العامة لقصور الثقافة،ط1 1999) وبالفعل فإن اللجوء للمفارقة يصنع دراما من نوع ما وقد لمسنا هذا كثيرا فيما قرأنا ولنقرأ أيضا قولها فى قصيدة ” سر فوضاي” من الديوان ذاته: 


“جسدى لم يعد لى


القصيدة تنسدل فوقى مفتونة


أنام مسكونة بالتشظي”


وهذه الخاتمة المفارقة والصادمة التى تستفزك كقارئ كثيرا لمعاودة القراءة مرة أخرى والتفتيش عما تخفيها تجيدها المعلا وتحيكها مرارا بحِرَفية لافتة فها هى تنقلك فجأة من حالة “النوم” بما تستدعيه من طمأنينة وراحة وسلام إلى التشظّى بكل ما يحمله من دلالات التمزق والتفتت والضياع !! تصنع خلود هذا فى لمح البصر عندما تجمع عالمين لا يجتمعان أبدا فى جملة واحدة وربما نصف جملة وبرشاقة لافتة؛ لذا من الخطأ عزيزى القارئ أن نقرأ” خلود/ الشاعرة” قراءة سريعة مخدوعين أحيانا ببساطة تعبيراتها ولغتها السهلة الناعمة وعلينا أن نقف مليا أمام قولها 


: ” أيها العارف/ لا تقرأنى على عجل، فأنا امرأة غير قابلة للاختزال ” فتلك نصيحة صادقة قدمتها الشاعرة لقارئها وعلى من يتجاهلها أن يتحمل عبء الغوص فى رمال قصائدها المتحركة التى تبتلع قارئها المتعجل غير المنتبه. 


             ( العزلة والالتحام بالذات)


على أننا حين نتحدث عن روح صوفية تغلف عالم خلود المعلا الشعرى وتتلبس كتاباتها أحيانا؛ فنحن نتكئ على قرائن لافتة مثل: قلة البوح الشعرى وكأنها لا تريد أن تتحدث إلا رمزا زهدا فى الثرثرة وربما خوفا منها بل، وتقر بذلك فى قصيدتها( شاعرة غير استثنائية) : “أنا شاعرة تطيل الصمت” ( ديوان/ ربما هنا)، ليس هذا فقط بل إنها وفوق صمتها تتسلق صمت الأشياء كما تقول فى الديوان ذاته: “أجرب أن أتسلق صمت الأشياء”( قصيدة، لا يسمعنى أحد)، هذا الصمت وقلة البوح ترشحه عناوين القصائد التى جاءت فى معظمها مفردة واحدة مثل: مطر، مفتاح، لن، بريق، عزلة، تحد، سهر، جبال، قارب، أبواب، دهشة ..إلخ ( ديوان- وأكتفى بالسحاب)، وكذلك: ضمة، مساء، لهفة، خريف، ارتداد، سؤال، تحول، ضيق ( ديوان- أمسك طرف الضوء) وهكذا..، فضلا عن حالة الاندياح والسياحة الهائمة فى الملكوت ورغبتها الشديدة فى الانعزال والاستئناس بالوحدة ” الخلوة” بالذات، وتقر بذلك: فى قصيدتى ( كائن مختلف، حفيف) من ديوانها ” أمسك طرف الضوء بقولها:” أنا كائن من وحدة” و “العزلة التى أرويها بقصائدى عامرة”، فهى كائن من وحدة وعزلتها هى شجرتها التى ترويها بماء الكتابة 


على أن صوفية الشاعرة وربما زهدها ليس انصرافا عن الدنيا و شواغلها أو هربا من دنس الوجود وآثام البشر ..نعم هناك “خلوة” لافتة تسعى إليها الشاعرة ورغبة دائمة فى ” العزلة” تلازمها رغبة كبيرة وعظيمة فى الانعتاق والتحرر بما يشبه “المجاهدة” الصوفية لكنه ليس ذلك التحرر والانعتاق من مغريات العالم/ الوجود فى اتجاه خالق هذا الوجود بالمنطق الصوفى بيد أنها تسعى فى ظنى إلى تلك العزلة بحثا عن ذاتها الحقيقية ورغبة فى الالتقاء بها على انفراد ومحادثتها والاستماع لها والاختلاء بها والاكتمال بحضورها أو كما تقول: 


” لابد أن نحدق كثيرا فى المرايا


لنستدل علينا 


نملأ مساماتنا بالانعتاق”


               ( لابد أن / ربما هنا)


 تلك الذات التى ربما تغيب فى الزحام وتختفى أو تفر حين يهيمن صخب الأرواح على المشهد…وهى نفسها تلك الذات التى تظهر صورتها وتنعكس بوضوح فى مرآة الطبيعة، ووحدة الشاعرة وانقطاعها تنهيها اختياريا أحيانا بالعودة دائما إلى المرآة لا لتلتقى بأحد وإنما لتلتقى بذاتها ( كالعادة) كما تقول: ” أتعدد فى المرايا/ كى لا أكون وحدي/ ” ( خط العودة/ ربما هنا).


وهنا نعود لنؤكد أن “ديالوج” الشاعرة الذى لا ينقطع مع معطيات الطبيعة والوجود هو حديث دائم مع الذات وإنصات لها وتفتيش عنها بوجه من الوجوه.. ولذا فإن انعتاق الشاعرة وتحررها نراه عين الالتحام بالذات والانصهار فيها وذلك هو كشفها الصوفى وحقيقتها التى تفتش عنها بدأب ويقينها الثابت مقابل قلقها “المستديم”.


 


هكذا أسكن حقيقة الأشياء


أتتبع اليقين


أتجنب اللا شيء


أتوق إلى لحظة الدهشة


أتحول مرات إلى وميض


أدخل ذاتى كلما تغربت


           ( هكذا أحيا اسطورتي/ ربما هنا)


***


 


( الحس الإنساني) 


تتسم تجربة خلود المعلا الشعرية بالحس أو البعد الإنسانى بمعنى أنها تتصدى لهموم عابرة للزمن وشواغل الإنسان فى أى مكان على الأرض ولا تتقيد بما يدور فى دائرتها الضيقة ولا بحيزها المكانى أو دائرة ثقافتها كشاعرة عربية وهو ما يجعلها مقروءة فى كل لغة تترجم لها أى أنها تدخل ضمن ” الأدب الإنساني” بامتياز وتلك ميزة إضافية وهامة جدا وتمنح قيمة أكبر لكتابتها ولكل كتابة تكتسب تلك المواصفات؛ فهناك الكثير من الأعمال الأدبية فى الشعر والسرد لا تثمر إلا فى تربتها الخاصة التى تغرس فيها؛ ومن ثم لا يستطيع فك رموزها وتلقى جمالياتها إلا أبناء ذلك الحيز الثقافى الذى نمت فيه .. بينما تفقد قدرتها على البوح الإنسانى حين تترجم إلى ثقافة أخرى. 


وفى نهاية هذا المقال نخلص إلى إن خلود المعلا غادرت فى عالمها الشعرى بوعى كامل وقصدية واضحة وبناء على انحياز جمالى واع مساحات التكرار والاجترار التى رعت فيها أخيلة الكثير من الشعراء بشكل مجاني؛ واستطاعت بشكل لافت العثور على صوتها الخاص فيما تمكنت من طرح شجنها الروحى و همها النفسى والجمالى وشواغلها الخاصة ورسمت برهافة ملامح تجربتها وقبضت ببساطة لافتة على جوهر الشعر وأنجزت “كتابة” لا تشبه إلا روحها.


 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى