Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار وثقافة

ياسر منجى يكتب: بعد 75 عامًا من رحيل رائدة الحركة النسائية المصرية 10روايات مختلفات لأول واقعة سُفور عَلَنية

ثقافة أول اثنين:

يوافق يوم الثانى عشر من ديسمبر 2022 الذكرى الخامسة والسبعين لرحيل رائدة الحركة النسائية المصرية، السيدة “هدى شعراوي” (1879 – 1947)، التى لم تقتصر جهودُها على مجال دعم حقوق المرأة فحَسب، بل امتد دورُها المؤثر ليشمل العديد من وجوه النهضة الثقافية، والفنية، والاجتماعية، بما أفضى إلى تكريسها كواحدةٍ من أبرز الشخصيات الفاعلة فى سياق مشروع النهضة المصرية الحديثة، خلال النصف الأول من القرن الماضي.


 


  غير أن أبرز ما يظل مرتبطًا دومًا بسيرة “هدى شعراوي”، هو دورها الفارق فى خدمة الحركة النسائية، ودعمها بالجهد والمال، والدعاية لها على أوسع النطاقات، محليًا ودوليًا، وهو ما تبلور فى تأسيسها للاتحاد النسائى المصرى عام 1923، الذى ظلت ترأسه حتى وفاتها، وكذا فى رئاستها للاتحاد النسائى العربى عام 1935، وهو العام نفسُه الذى شهد تقَلُّدها منصب نائبة رئيسة لجنة اتحاد المرأة العالمي.


 


  وتبرُز فى هذا السياق واقعةٌ شهيرة، ارتبطت فى أغلب رواياتها باسم “هدى شعراوي”، ونُسِبَت إليها، وهى واقعة إزاحة أول امرأة مصرية لغُلالة “اليَشمَك” (البيشة) عن وجهها فى تظاهُرة عامة. وهى الواقعة التى كثيرًا ما توصَف بأنها (خلع الحجاب)، على رغم اقتصارها على كشف “البُرقُع” أو النقاب الوجهى فقط، وعلى رغم أن “هدى شعراوي” نفسها ظلت حتى نهاية حياتها ترتدى الحجاب، دون نقاب الوجه. 


 


السيدة هدى شعراوي


 


وقد دعانى التواتُر الكثيف لذِكر هذه الواقعة، ضِمن سياقات ذات صلة وثيقة بأحداث ثورة 1919، إلى محاولة تَتَبُّعها فى عدد من النصوص التى أرَّخَت لها، وكان كُتّاب هذه النصوص إما أبطالًا لهذه الواقعة، وعلى رأسهم “هدى شعراوي” نفسها، أو شهود عيانٍ لها، أو معاصرين نقلوا عن بعض أبطالها، أو باحثين حقّقوا بعض هذه النصوص وأعادوا نشرها.


 


  وكانت دهشتى كبيرةً، حين وجدتُ اختلافاتٍ كثيرة بين هذه الروايات، لا فى طريقة سرد الواقعة نفسها، بل حول أماكن وقوعها، وتاريخ وقوعها، ودوافع حدوثها وأسبابها، إلى أن يصل الخلاف إلى حد عدم الاتفاق على الشخصية التى تزَعَّمَت هذه الواقعة، فتتفرق الروايات بين كونها “هدى شعراوي” وبين كونها “أم المصريين” “صفية زغلول”.


 


  والنتيجة العامة التى يَخلُص إليها مَن يستعرض هذه الروايات، ويقارن بينها، هى أن حدث استعلان سُفور المرأة المصرية فى الفضاء العام لم يكن حَدَثًا بسيطًا، بل جرى فى سياق معقد، متداخل الأحداث، إلى درجة تختلف معها روايات معاصريه وشهود تفاصيله، بل وتتعدد بعض روايات بطلته نفسها، “هدى شعراوي”، حين قدمت شهادتها عنه فى عدة مناسبات منشورة، كما سيتضح بالتفصيل لاحقًا.


 


  الغريب أن هذا التعدد فى الروايات –وفقًا لما أُتيح لى الاطلاع عليه من مصادر مذكورة بالتفصيل فى سياق المقال – قد بلغ أكثر من عشر روايات، تختلف أكثرُها فيما بينها فى رسم تفاصيل الحدث، والتحديد القطعى لتاريخه، ومكان حدوثه، وشُخوص المُشاركين فيه، ودوافع حدوثه، وهو ما يمكن رصده على النحو التالي، مع ملاحظة أننا لا نتّبع الترتيب التاريخى من الأقدم إلى الأحدث فى إيراد تلك الروايات:


الرواية الأولى أورَدَها الكاتب الصحفى المصرى “حافظ محمود” (1907 – 1996)، المُلَقَّب بـ(شيخ الصحفيين)، فى كتابه “المعارك فى الصحافة والسياسة والفكر 1919-1952″، الصادر عن سلسلة “كتاب الجمهورية” عام 1969.


 


  ويذهب “حافظ محمود” فى هذه الرواية إلى أن أول مشاركة نسائية سافرة فى الثورة كانت عام 1921، فى الاحتفال الذى نظمته السيدات لاستقبال “سعد زغلول” عند عودته من الخارج؛ إذ يقول: “… فى هذا الاحتفال الذى لم يحضره من الرجال إلا “سعد زغلول” وحده – خرجت السيدات سافرات لأول مرة وأقمن المظاهرات النسائية لأول مرة. كانت المظاهرة الأولى بقيادة هدى – هانم – شعراوي، وقد أزعجت هذه المظاهرات سلطات الأمن، فاعترض طريقها الحاكمدار الإنجليزى بقواته ولما رأى إصرار السيدات على متابعة السير فى مظاهرتهن قال لسيدات الصف الأول فى المظاهرة: إننى أرجو ألا تضطرننى لاستخدام السلاح.. فتقدمت منه السيدة هدى شعراوى وأشاحت من وجهها ما بقى من نقابها قائلة: أنا حرم شعراوى باشا فإذا أردت أن تطلق النار فإنه يشرفنى أن أكون أول شهيدة”. 


حافظ محمود


 


غير أن ما ذكرته “هدى شعراوي” بنفسها، فى روايةٍ ثانية يخالف الرواية السابقة من وجوه كثيرة؛ ويتضح ذلك من خلال مقالٍ كتبته بعنوان “من أعياد المرأة”، أعيد نشره فى ذكرى وفاتها الأولى، فى كتاب بعنوان “ذكرى فقيدة العروبة”، ضم الخطب والأشعار التى ألقيت بحفلة تأبينها بدار “الاتحاد النسائى المصري”، مساء يوم الجمعة 30 يناير 1948.


 


  فقد ذكرت “هدى شعراوي” فى هذه الرواية بوضوح أن مَن واجهها كان جنديًا بريطانيًا عاديًا، ولم تذكر الحكمدار بتاتًا، كما لم تُشِر من قريب أو بعيد إلى أنها أزاحت النقاب، بل على العكس، يتضح من سياق روايتها أن الإطار العام للمظاهرة النسائية التى تزعمتها كانت تَرينُ عليه تحفظات التقاليد والعُرف فى أكثر من تفصيلية.


 


غلاف كتاب تأبين هدى شعراوي


 


ويبدو أن “حافظ محمود” خلط بين بعض الأحداث التى تزعمتها “هدى شعراوي” عام 1919، وبين موقفها من اعتقال “سعد” عام 1921؛ وهو ما يُستَشَفّ من مقالٍ بعنوان “الوطنية العظيمة”، كتبه “إدجار جلاد”، ونُشِرَ فى جريدة “الزمان” بتاريخ 13 ديسمبر 1947، أى فى اليوم التالى لوفاة “هدى شعراوي”؛ حيث يرد فى مقال “جلاد” أنه زارها فى منزلها فى 20 ديسمبر 1921، ليجدها جالسة إلى مكتبها، تكتب بقلم ذهبى رسالة إلى اللورد “أللنبي” تتضمن احتجاجًا على نفى “سعد زغلول”، بينما تدور فى الخارج مظاهرة يتساقط فيها القتلى والجرحى، من المتظاهرين الذين حاولوا اقتحام ثكنات قصر النيل لتخليص “سعد”.


 


  أما الرواية الثالثة، فقد وردت فى مقالٍ ثانٍ بعنوان “من مذكرات صحفي: أوراق منسية: النقاب الأول”، بقلم “إحسان عبد القدوس”، نُشِرَ كذلك فى جريدة “الزمان” بتاريخ 8 يناير 1948، وهى رواية يتضح معها أن حادثة خلع “هدى شعراوي” لحجاب وجهها كانت عام 1920، ولم تكن لها علاقة بمظاهرات 1919، بل كانت على متن الباخرة التى عاد عليها “سعد زغلول” من منفاه. 


 


  كما يتبيّن من هذه الرواية الثالثة أنها لم تكن المرة الأولى التى تخلع فيها “هدى شعراوي” الحجاب؛ إذ سبقتها مرات كثيرة فى أوربا، لكنها كانت المرة الأولى التى تواجه فيها علنيًا حشدًا كثيفًا من المصريين. وفى ذلك يقول “إحسان عبد القدوس”: “كانت المغفور لها السيدة هدى هانم شعراوى أول سيدة مصرية رفعت عن وجهها الحجاب، وقد سألتها مرة فى 20 مارس عام 1943 عن شعورها عندما ظهرت سافرة الوجه بين الرجال لأول مرة، فأجابت رحمها الله: كنت قد تعودت أن أرفع الحجاب كلما سافرت إلى أوربا، وكانت الدعوة موجهة إلينا من الاتحاد النسائى البريطاني، فاكتشفت أننا دعينا للتشهير بنا وإظهار بشاعتنا وهمجيتنا أمام نساء العالم إلا أننا عندما بدونا سافرات بين أعضاء المؤتمر صاحت كل الموجودات: إنكن لستن مصريات. قلنا: لِمَ؟ قلن: إن لكن وجوهًا مثل وجوهنا! ثم التفتت إحداهن إلى السيدة الجليلة نبوية موسى وقالت: ربما كانت هذه مصرية؟ واستطردت عصمتها فى حديثها فقالت: أما كيف رفعت الحجاب فى مصر، فكان ذلك عام 1920، وكنت عائدة من فرنسا بصحبة ابنتى وزوجها على نفس الباخرة التى عاد عليها سعد زغلول، وحينما وصلنا إلى الميناء استأذنت زوج ابنتى فى أن أنزل أنا وابنتى إلى الجموع الزاخرة المحتشدة لاستقبال سعد، سافِرَتَى الوجه، فأذن لنا، ورفعنا النقاب وقرأنا الفاتحة ثم خطونا على سلم الباخرة مكشوفتى الوجه. وتلفتنا لنرى تأثير الوجه الذى يبدو سافرًا لأول مرة بين الجموع، فلم نجد له تأثيرًا أبدًا، لأن كل الناس كانوا متوجهين نحو سعد متشوقين إلى طلعته! 


 


ومن يومها رفعتُ الحجاب وانضمت إلَى كثيرات من فضليات السيدات، ولكن الجرائد بدأت تهزأ بنا إلى حد جاوز اللياقة، وكنا كلما خرجنا سافرات إلى الطريق أشار إلينا الناس وتهامسوا حولنا وضحك بعضهم هازئًا، وشتم البعض الآخر غاضبًا، وكنت أتحمل كل ذلك صابرة متحدية. ولكن كثيرًا من السيدات لم يستطعن أن يتحملن ما تحملته، فعدن يختفين وراء النقاب.


 


 وقالت لى عِصمَتُها أن كريمتها السيدة بُثْنة هانم شعراوى كانت أول سيدة مصرية تقدمت إلى المغفور له الملك فؤاد سافرة الوجه وفى مجتمع رسمي. وكان ذلك عام 1925 عندما أقام زوجها المرحوم محمود باشا سامى حفلة تكريم لوزير أمريكا المفوض فى مصر شرفها الملك فؤاد بحضوره”.


 


  إلا أن هذه الرواية، الثالثة، الواردة فى مقال “إحسان عبد القدوس”، تختلف تمامًا عن رواية رابعة، كانت قد نُشِرَت فى حياة “هدى شعراوي”، قبل خمس سنوات من نشر مقال “إحسان”، وتحديدً بتاريخ 12 مارس 1943، بمجلة “المصور”، وهو مقال يكتسب أهمية خاصة؛ بالنظر إلى أنه مكتوب بقلم “هدى شعراوي” نفسها، بعنوان “أول برقع ارتفع عن وجه المصرية”، مع عنوان فرعى من المجلة نصه: “بقلم زعيمة النهضة النسائية السيدة هدى شعراوي”. وهذه الرواية تجعل من عام 1923، وليس عام 1920 تاريخًا لواقعة إزاحة البرقع، كما تجعلها فى أعقاب المشاركة فى المؤتمر النسائى الدولي، وليست بمناسبة عودة “سعد زغلول”.


 


ترويسة مقال هدى شعراوي


 


وفى هذا المقال، تسرد “هدى شعراوي” موجزًا لمسيرة “الاتحاد النسائى المصري”، بدءًا من الفكرة التى أوحت لها بتأسيسه، وانتهاءً بواقعة رفع البرقع – لاحظ هنا استخدامها الدقيق لكلمة “برقع”، وليس لكلمة “حجاب”، التى شاع ذكرُها فى الروايات اللاحقة والمعاصرة، التى تنسب إليها (نزع الحجاب) – حيث تقول: “وفى سنة 1920 جاءتنى دعوة من الاتحاد النسائى الدولى لحضور مؤتمره فى سويسرا ففكرت مع بعض السيدات المصريات فى السفر إليه، ولكن ظروف الحركة الوطنية لم تساعدنى على إجابة الدعوة.


 


  ثم كان المؤتمر الثانى فى رومة سنة 1923 فجاءتنى الدعوة للحضور، فاعتزمت السفر أنا ولفيف من الآنسات والسيدات المصريات وسافرنا فى ذلك الحين وكنا ثلاثًا، فلما وصلنا إلى المؤتمر قوبلنا أسوأ مقابلة، فقد كانت الإيطاليات وبعض الأجنبيات ينظرن إلينا نظرتهن إلى الزنجيات، وكن يعجبن بأننا مصريات.


 


 


وعدنا إلى مصر بعد انتهاء المؤتمر، ففكرنا أنا والآنسة سيزا نبراوى فى القطار المتجه من الإسكندرية إلى مصر أن نخلع البرقع ففعلنا، وقابلنا على المحطة الذين كانوا فى استقبال الرجال والنساء بهذا السفور، فلم نجد منهم استنكارًا.. وفى هذا العام نفسه تألف الاتحاد النسائى المصرى وأسسنا داره….”.