محمد أبو الفتوح يكتب: كيف تكشف المُثقَّف المزيف؟
ثقافة أول اثنين:
موضع النية من فعل التثقُّف هو ما يفرق بين كونها حقيقية مثمرة أو زائفة مُدَعية.. والغواية كبيرة في هذا الشأن؛ إذ أن المثقف مُتكلِّم في الغالب.. يعرف ما لا يعرفه المعظم من عامة الناس.. ويستطيع جذب انتباههم ثم إعجابهم بكل هذا القدر غير القليل من المعلومات التي يقدر على رصِّها.
ولكن هل الثقافة هي معرفة المعلومات والقدرة على استدعائها؟ إذن فماذا يفرق المثقف عن الحاسوب الذي هو بالقطع أكثر قدرة من الإنسان مهما بلغت ألمعيته في هذا الميدان؟
هدف الثقافة
إن هدف الثقافة هو الوصول لحالة من النضج الإنساني على مستوى العقل (عن طريق القراءة وإعمال الفكر والتدرُّب على المهارات المنطقية)، والروح (عن طريق الانغماس في عملية تلقي وتذوق الآداب والفنون)..
ولفض التداخل بين العمليتين فلننظر لهما على شكل خط مستقيم.. التفكير المجرد المحض عند أحد طرفيه، حيث يعمل العقل فيما لديه من مخزون فكري بعمليات منطقية محايدة دون دخول أية مدخلات جديدة، والتلقي المحض عند طرفه الآخر حيث يغمض الإنسان عينيه ليغرق في نشوة استماع موسيقى مثلا فيفنى عن نفسه تماما، وقد تحمله النشوة على أفعال تفاجئه هو شخصيا كأن يصيح بكلمة إعجاب، وتمتزج كل عملية منهما بالأخرى بنسب متناغمة ومتناسبة على طول ذلك الخط.
الجانب العقلي يتوقف عند المثقف المزيف عند جمع المعلومات.. هذا إن جمعها حقا ولم يكتف منها بالقليل الذي يؤهله لنسج ساعات من الحديث الفارغ.. ولكن هل هذا فعلا هو نهاية الجانب الفكري من الثقافة؟ على العكس.. إنه البداية، إذ أن جمع المعلومات تليه عملية تأملها وتحليلها، ثم عملية الوصول لتصور ما عن العالم.. وهو تصور قابل للتعديل وأبعد ما يكون عن الأحكام المطلقة.. برغم أنه يتكون بالفعل من أحكام، ولكنها في المعظم أحكام نسبية وغير نهائية..
وبمرور الوقت يتسع هذا التصور ويصير أكثر وضوحا بالتدريج.. إنها رحلة العمر في التماس المعرفة والحكمة.
كيف تكشف المثقف المزيف؟ يهدف إلى إبهارك لا إخبارك
المثقف الحقيقي يخبرك بالمعلومة لأنها ضرورية في النقاش، لكن المثقف الزائف يخبرك بالمعلومة ليرى الدهشة والانبهار بسعة اطلاعه وعبقريته في عينيك.. إن أناه يقتات على ذلك.
يعرف كل شيء
لأنه مزيف فهو قادر على تزييف معرفته، واختلاق عالم زائف مُفتعَل انطلاقا من معلومة واحدة صحيحة ربما يكون قد قرأها في الصباح وهو يطالع الجريدة أو الفيس بوك.
يكوِّن رأيا بسرعة
إنه يحب أن يتكلم.. لديه شهوة خاصة للكلام.. وأحد طرق إنشاء الكلام هو اختلاف الآراء.. فهو يتبنى رأيا بسرعة شديدة – ليس لأنه مقنع به – ولكن لأن هذا الرأي يفتح أمامه بابا للمزيد من الاسترسال والإمساك بدفة الحديث. ومن الممكن جدا أن تجده يتبنى رأيا مخالفا في اليوم التالي لذات السبب.
يحب أن يفتعل النقاشات
إذا مر بالجمع دقيقة من صمت تجده يلفت النظر إلى أي شيء غير ذي قيمة، ثم ينطلق منه إلى جدلية ضخمة تبدو في غاية العمق.. فربما وجدته ينطلق من عامل النظافة بثيابه المتسخة إلى الصراع الطبقي ونظرياته، أو من صبي المقهى ثقيل الظل إلى نظريات فرويد وكارل يونج في تحليل الشخصية.
غير قادر على أن يتفهم وجهة نظر الآخر
إن خرجت عليه بوجهة نظر حرة خاصة بك محاولا أن تُثري الحوار، لأنه – كما كنت تظن – حوارا، تجده يعارض في التو واللحظة، يعارض بسرعة تجعلك تشك في فهمه لما قلت من الأساس؛ فكونك صاحب وجهة نظر يعني له الكثير من التهديدات، أولها أنك سوف تحصل على بعض الوقت (منه) لتشرح وجهة نظرك وتحاول إثباتها، وليس آخرها أنك ربما استطعت أن تستميل الجمع إلى وجهة نظرك وتحرمه من انبهارهم حرمانا لا يُغتفر.
يسطو على النقاشات
لديه قدرة غريبة على التسلل داخل أي نقاش من منتصفه؛ لتجده فجأة سيد الجلسة التي بدأت منذ ساعة، بينما هو هنا منذ 10 دقائق فقط!
يستخدم كلمات ومصطلحات ضخمة ومعقدة دائما
لا يقول علم نفس السلوك، بل سيكولوجية السلوك.. لا يقول علم اجتماع الأدب بل هو سوسيولوجيا الأدب.. هذا بالإضافة إلى الكثير من السميوطيقا والهرمنيوطيقا والإنتلجنسيا.. لا ترضيه أبدا كلمة الحنين، إنها – وإلى أن يظهر مصطلح أكثر تعقيدا – نوستالجيا.
إن هذه المصطلحات ليس مكروهة في ذاتها، ولكن أن يقولها أحدهم وهو يعلم جيدا أنها غير مفهومة بالقدر الكافي من المحيطين به فهذا هو المكروه.
ليس لديه نتاج معرفي حقيقي
كما أوضحنا في بداية مقالنا.. الثقافة ليست فقط التشدق بالمعلومات والاكتناز بالمقولات والمصطلحات، بل هي سعي دائب ودائم وصادق ونبيل نحو فهم حر وخاص للعالم، لذلك عادة ما تُنتج معرفة جديدة وخاصة.
صاحبنا المثقف المزيَّف يقف عند أعتاب الثقافة الحقة ولا يدخلها.. فمن المستحيل أن يكون له نتاج معرفي حقيقي على الإطلاق، وإن ادَّعى ذلك فبالقطع هو نتاج مُنتحَل، قادته جرأة الجهل واستبعاده وجود من سيبحث ورائه إلى انتحاله.