“حارس البوابة الإعلامية” عين تحرس في سبيل الله
“حارس البوابة الإعلامية”
عينٌ تحرس في سبيل الله
لم يخلقنا الله عز وجل عبثًا، إنما خلقنا للعبادة ولإعمار الأرض بالمنهج الذي وضعه وارتضاه لنا، فكل واحد منا مسؤول على ما استُخلف عليه، وكل واحد منا قائم على الثغر والجبهة التي هو مرابط فيها، فالحاكم مسؤول ومحاسَب على شؤون الرعية، والزوج مسؤول ومحاسب على المؤسسة الزوجية، والزوجة كذلك مسؤولة ومحاسبة عن بيتها وأسرتها، وعالم الشريعة مسؤول ومحاسب على إرشاد الناس وتعليمهم دينهم، والإعلامي مسؤول ومحاسب عما يذيعه وينشره للجماهير، فكل فرد على هذه البسيطة مسؤول عما استخدمه الله فيه، واستأمنه عليه؛ قال تعالى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115].
نظرية حارس البوابة الإعلامية:
تعد نظرية حارس البوابة من أهم نظريات الإعلام في “علم الاتصال”؛ حيث ذاع صيتها في سبعينيات القرن الماضي، وتفترض هذه النظرية وجود حارس للبوابة الإعلامية؛ أي: وجود مسؤول عن تمرير المادة الإعلامية؛ إذ تقع بيده سلطة النشر الصحفي والإذاعي والتلفزيوني، سواء كان هذا الحارس رئيسًا للتحرير، أو مسؤولًا عن الموافقة على نشر المضامين الإعلامية في الوسائل التقليدية آنفة الذكر، أو الحديثة؛ مثل وسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة، وسواء علا منصبه أو دنا، فيعتبر هذا الإعلامي أحد أفراد حراس البوابة الإعلامية المسؤولين على ثغر النشر الإعلامي، وهو محاسب على ما يقدمه من فكر ومضامين تؤثر في عقيدة وفكر، وثقافة وسلوك الجماهير عامة.
((عينان لا تمسهما النار)).
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: ((عينان لا تمسهما النار، عينٌ بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله))؛ [رواه الترمذي]، وقد جاء في معنى الحديث أن النار لا تمسُّ عينًا بكت خوفًا من الله تعالى، فعندما تتجلى للإنسان عظمة الله وقدرته على عباده، ويستحضر حاله وتقصيره في حق الله تعالى، يبكي رجاء رحمته، وخوفًا من عقابه وسخطه، فهذه العين الباكية من خشية الله موعودة بالنجاة من النار.
والعين الثانية التي لا تمسها النار هي التي باتت تحرس في سبيل الله تعالى على الثغور ومواضع الاقتتال؛ حفاظًا على أرواح المسلمين وحياتهم؛ وقال العلماء: وقوله: ((لا تمسهما النار)) هذا من إطلاق لفظ الجزء وإرادة الكل، والمراد أن من بكى من خشية الله، ومن بات يحرس في سبيل الله، فإن الله تعالى يحرم جسدهما على النار.
وللحديث علاقة قوية وموضوعية بنظرية حارس البوابة؛ إذ لا غرْوَ إذا قلنا: إن عين الإعلامي التي تراقب بحرص، وتتابع باهتمام، وتفند باحتراز المضامين الإعلامية، ناصبة أمامها تقوى الله، فتمرر ما هو صالح للنشر، وتمنع ما دونه؛ حفاظًا على قيم المجتمع وثوابِته ومبادئه – هي عين باتت تحرس في سبيل الله.
الكليات الخمسة وعلاقتها بحارس البوابة:
لقد اتفقت الأديان السماوية، وأصحاب العقول السليمة، فضلًا عن علماء الشريعة الإسلامية – على احترام الكليات الخمسة وصيانتها؛ حفاظًا على كرامة الإنسان، وضمانًا لسلامة حياته، وقد أجمع أنبياء الله تعالى ورسله من عهد سيدنا آدم عليه السلام، إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، على وجوب حمايتها ورعايتها، وهذه الكليات هي: الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال، وقد عُلمت رعاية الشرع لهذه الضروريات من مجموع نصوص الشريعة؛ قال الشاطبي مبينًا هذه الضروريات ووجه الاستدلال عليها: “فقد اتفقت الأمة، بل سائر الملل على أن الشريعة وُضعت للمحافظة على الضروريات الخمس”.
أما بالنسبة لترتيب هذه الضروريات؛ فالعلماء على خلاف فيها، فمنهم من رجح تقديم حفظ النفس على الدين، وآخرون – وهم الأكثر – رجحوا تقديم حفظ الدين على ما عداه، وهو قول الآمدي وما أطال الشاطبي في تقريره في كتابه “الموافقات”، وقال صاحب “التقرير والتحبير” ابن أمير حاج: “ويقدم عند المعارضة – أي الدين – لأنه المقصود الأعظم”؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
الحراسة تحتمل الحقيقة والمجاز:
ما الدين في الأصل إلا معتقدٌ؛ أي: إيمان عميق وراسخ بالله عز وجل، يتمخض عنه سلوك وأفعال؛ مثل: العبادات، والأخلاق، والمعاملات التي تضبط علاقة الفرد مع ربه ومع الناس؛ إذًا فالحفاظ على الدين هو حفاظ على الإيمان والقيم، والمبادئ والأخلاقيات، وهو مقدم على غيره من الضروريات بما فيها حفظ النفس – عند من رجح ذلك – ولو أننا حملنا الحديث على المعنى المجازي، فيصح اعتبار عين حارس البوابة الإعلامية مشمولة مع العين التي تحرس على الثغور وفي مواقع الاقتتال، وهو المعنى الحقيقي، فالعين التي ذكرها الحديث هي التي تسعى للحفاظ على أرواح الناس وأمانهم، والعين الأخرى هي التي تسعى للحفاظ على المعتقد والأفكار، والثقافة، والهوية الإسلامية والأخلاق، وهذه الركائز تندرج تحت مفهوم الدين كما تقدم الشرح.
ولو أخذنا بالرأي الراجح القائل بتقديم حفظ الدين على حفظ النفس، فسنجد أن مهمة حارس البوابة الإعلامية لا تقل أهمية عن مهمة حارس الثغور في المسؤولية والأجر، بل قد تفوقها وتتقدمها لأهمية مقصد الحفاظ على الدين.
حارس البوابة قائم على ثغر الدين:
إن الحارس الذي يقف على بوابة حفظ دين المسلمين، ولا يسمح إلا بمرور ما يكرس للأخلاق والمبادئ السامية، والقيم العالية، ولا يرضى بتمرير المضامين الإعلامية المسفَّة والمبتذلة والتافهة؛ بغية الحصول على مكاسب دنيوية؛ مادية كانت أو معنوية – لا يقل دوره عن الحارس الذي تبيت عينه حارسة في سبيل الله، يبذل روحه رخيصة؛ ليحافظ على أرواح الناس.
حارس البوابة الإعلامية لا بد أن يكون أمينًا على ما اؤتُمن عليه؛ وذلك بنشر ما ينفع الناس، ويحفظ معتقدهم وأفكارهم وثقافتهم وهوياتهم وكرامتهم من المواد الإعلامية الملوثة أو المشرئبة بأفكار غربية علمانية، لا تمتُّ لثقافتنا الإسلامية بصلة.
حارس البوابة الإعلامية مستأجر عند الله، قبل أن يكون مستأجرًا في المؤسسات الإعلامية، أو عند الأفراد، ويجب أن يكون قويًّا في الحق، لا يداهن، ولا ينافق، ولا يبيع دينه أو نفسه لأجل بعض دراهم، أو سعيًا وراء “الترندات”، أو اشتهاءً في الشهرة، أو رغبةً في إرضاء الجماهير، حارس البوابة الإعلامية مسؤول على الثغر الذي يرابط عنده وفيه؛ قال تعالى: ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ﴾ [الصافات: 24].