بستان السالك في مناقب أنس بن مالك
بستان السالك في مناقب أنس بن مالك
هذا أنس بن مالك رضي الله تعالى، تلميذ مدرسة نبينا محمد صلى الله وسلم، وخادمه، وحين آلتْ أمه، وإلا أن يكون للنبي خادمًا؛ ولينال شرف الصحبة، والخدمة معًا، ويكأنه، وحين كان ذلك كذلك، وإنما قد تنشَّأ تنشئة صحابي كريم، ولما كان مضرب المثل في القدوة الحسنة، وحين ألفيناه حاسمًا، ومن معاركه وجهاده، وكما كان إلفًا، ومن خدمته، تاريخًا أبيض، ناصعًا، شفافًا، رقراقًا، مجيدًا.
وأعالجه في أربع عشرة مسألة.
المسألة الأولى: اللهم أكْثِرْ ماله وولده، وأطِلْ عمره، وأدخله الجنة:
هذا دعاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، وحين كان قد خدمه عشر سنين، وحين لم يعنفه يومًا، ولما لم يوبخه يومًا، وحين قد أكرمه يومه وغده، ولما أن كان هذا النبي صلى الله عليه وسلم ألينَ الناس، وأرأف الناس، وأحلم الناس، وأعف الناس، وأرحم الناس، ولا سيما على أولاء مكسوري الخواطر، من الإماء والجواري والرقيق والخدم أيضًا.
وقد مرَّ في غير مناسبة ومن هذه السيرة النبوية المباركة، ذكر أنس بن مالك هذا عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأنه قال: ((خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي: أفًّا قط، ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟ زاد أبو الربيع: ليس مما يصنعه الخادم، ولم يذكر قوله: والله))[1].
المسألة الثانية: إن أنسًا غلام كَيِّسٌ
وهذه شهادة أبي طلحة، ولأخيه أنس بن مالك، وإنه كيس، فطن، ألمعي، عبقري، وإذ ليس يفري فريه، وإلا مَن كان مِن شاكلة عمر الفاروق رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وهذا شأن الأمة الوسط، وحين كان من وسطيتها، وكذا كان شأنها شهداء على الناس، شهادة الحق، والعدل، والقسط، والنصفة؛ وكما قال الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143].
وهذا حق الإخاء، وهذا موجب الولاء، وهذا معين الوفاء، وهذا مورد النقاء، وحين يتجشم أخٌ مِدحةَ أخيه؛ شهادة الحق الذي كانوا به يعدلون، أمة كان هذا شأنها، ترقى بأُخوَّتها عنان السماء، وتعلو بوحدتها الآفاق والأنحاء، وتسمق بألفتها كافة الأرجاء، يزكون بعضهم بعضًا، وإلا عن صدق، ويستروحون بعضهم بعضًا، وإلا من نصفة، وإخلاص، ومحبة، وولاء، وإذ كان يصدق فيهم قرآن تنزَّل؛ ولما كان من قوله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71].
فعن أنس بن مالك: ((قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي، فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أنسًا غلام كيِّس، فليخدمك، قال: فخدمته في السفر والحضر، ما قال لي لشيء صنعته: لم صنعت هذا هكذا؟ ولا لشيء لم أصنعه: لِمَ لَمْ تصنع هذا هكذا؟))[2].
وهذه دعوات ثلاث، وحين كان مدار سعادة العبد عليها، من دنياه، ومن أخراه معًا، ولما كان هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم مستجاب الدعاء؛ ولأنه نبي، ولأنه مطعمه حلال، ولأنه مشربه حلال، ومنه فلا ثمة مانع من إجابته، ولا ثمة حائل من قبول دعوته، ومن لدن ربٍّ رحيم، رؤوف، كريم، تواب، حليم، سبحانه أيضًا.
وهذه الثلاث، وحين نقول: إن عليها مدار السعادة الأبدية، وكما أن فيها السعادة الدنيوية؛ ولأنه تعالى قال: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46]، وهذه سعادة الدنيا، وحين كانت زينة العبيد، ولما تحلوا بمرضاة ربهم الحق المجيد، ولما كان منه إغداقه عليهم من نعمائه، ولما كان منه إهلاله عليهم من عطاياه، ومنحه، ومِنَنِهِ، وأفضاله.
المسألة الثالثة: علم نبوة ضافٍ:
وهاتان هما اللتان رآهما أنس، ومن دنياه، ومن حين رُزق من الذرية مائة وستًّا، أو مائة وعشرين، وعلى قولين في هذا، وحين كان كَرْمُهُ – أي: حديقة عنبه – تحمل ثمرها، وفي العام مرتين، وهذا علم ضافٍ آخر، ومن أعلام نبوة هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه ليس ومن كمثله كَرْمٌ يثمر في العام مرتين اثنتين!
وحين كان أنس ينتظر الثالثة؛ وهي دخول الجنة، ونعيمها، وغراسها، وترابها، ومسكها، وعودها، وطيبها، ورحيقها، ونسيمها، وحورها، وأعنابها، ولا كعنب حديقته، ولا غير حديقته، وإذ ليس يجمعهما، وإلا جامع الأسماء وحسبنا؛ وكما قال عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنه يومًا: “ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء”[3].
المسألة الرابعة: أترون هذه طارحةً ولدها في النار؟!
وهذه عاطفة أمٍّ نحو ولدها، وما أعظم عواطف الأمهات نحو أولاء الفلذات! وإذ ليس من وصفها بقادر واصف، وإذ ليس من نعتها بمطيق ناعت، وحين تضمه، وترعاه، وتلفه، وبخمارها لفًّا، ومن برد أو طقس غير ملائم، رسالة إلى الأولاد والبنين، وأن برًّا بآبائكم، وهم أولاء الذين ليسوا يقلون، وعن أم أنس شيئًا، ومن رعاية، ومن محبة، ومن حنان، ومن شفقة، ومن رحمة، ألا فارعوا حقوقهم، وألا فآتوهم نصيبهم، ومن برهم غير منقوص!
وقال أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: ((جاءت بي أمي أم أنس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أزرتني بنصف خمارها، وردتني بنصفه، فقالت: يا رسول الله، هذا أنيس ابني، أتيتك به يخدمك فادعُ الله له، فقال: اللهم أكْثِرْ ماله وولده، قال أنس: فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادُّون على نحو المائة اليوم))[4].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ((قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبيٌ، فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبيًّا في السبي أخذته، فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا، وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها))[5].
وهذا مثال تقريبي، وهذا بلاغ نبوي، وحين كان من ضرب المثل التقريب، والتفهيم، والتدريب، وربط العلائق، وتبيين الحقائق، وضبط الوشائج، وهذا سَنَن دعوي كريم، قَمِنٌ بأصحاب الدعوات أن يعملوه، وبأهل الصلاح والهدى أن يفعلوه.
المسألة الخامسة: يا رسول الله، إن لي خويصة:
وانظر كيف كانت الأم، وانظر كيف رحمتها، وبولدها، ولربما كان ومن أكثر من نفسها، وحين طلبت الأم ومن هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يخصه بدعائه، ودون أمه وها هي قد شملها وولدها الدعاء، ومن قبل وفي رسالة ضافية إلينا – معاشر الناس- أن للوالدين حقوقهما، ومن بيان إلينا – معاشر الناس – أن نقف؛ ومن إجلال أمامهما، مطأطئي هامات، وإذ ليس عندهما ومن هامات، ومنحني قامات، وإذ ليس أمامهما ومن قامات.
فعن أنس رضي الله عنه: ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم، على أم سليم، فأتته بتمر وسمن، قال: أعيدوا سمنكم في سقائه، وتمركم في وعائه، فإني صائم ثم قام إلى ناحية من البيت، فصلى غير المكتوبة، فدعا لأم سليم وأهل بيتها، فقالت أم سليم: يا رسول الله، إن لي خويصة، قال: ما هي؟ قالت: خادمك أنس، فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلا دعا لي به، قال: اللهم ارزقه مالًا وولدًا، وبارك له فيه، فإني لمن أكثر الأنصار مالًا، وحدثتني ابنتي أمينة: أنه دفن لصلبي مقدم حجاج البصرة بضع وعشرون ومائة))[6].
وقوله: ((فإني لَمِن أكثر الأنصار مالًا))؛ الفاء فيها معنى التفسير فإنها تفسر معنى البركة في ماله، واللام في: لمن، للتأكيد ومالًا، نُصب على التمييز، فإن قلت: وقع عند أحمد من رواية ابن أبي عدي أنه لا يملك ذهبًا ولا فضة غير خاتمه، وفي رواية ثابت عند أحمد: ((قال أنس: وما أصبح رجل من الأنصار أكثر مني مالًا، قال: يا ثابت وما أملك صفرًا ولا بيضًا إلا خاتمي؟))، قلت: مراده أن ماله كان من غير النقدين، وفي جامع الترمذي، قال أبو العالية: “كان لأنس بستان يحمل في السنة مرتين، وكان فيه ريحان يجيء منه رائحة المسك”، وفي الحلية لأبي نعيم من طريق حفصة بنت سيرين عن أنس، قال: “وإن أرضي لتثمر في السنة مرتين، وما في البلد شيء يثمر مرتين غيرها”[7].
المسألة السادسة: مسألة دخوله صلى الله عليه وسلم على أم سليم:
ويكأن هذا النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم، ولما كان معصومًا، ولما كان نبيًّا رسولًا، ولما كان ليس يمنعه من الزواج مانع، ولما كان هذا الحدث، وفي السنة الرابعة من هجرته صلى الله وسلم، وإذ كان في كنفه وبيوتاته نساؤه ومن أزواجه وجواريه، ومن بعد غزوات شتى وإذ ليس فيه ومن بعد قول لقائل، أو افتراء لمفترٍ، أو مخادعة لمخادع، أو وثبة لواثب، أو صولة لصائل.
وإذ كيف ينظر الناس، ومن منظارهم هذا الضيق، وقد كان الأفق واسعًا جد سَعة وحين كان من موجب دخوله صلى الله عليه وسلم عليها رحمتها، وهذا الذي كان يُنتظر أن يُوقف عنده، ويُمدح به، ويُثنى عليه، وفي عالم هكذا رأيته هائجًا، ماجنًا، ولينقِّب عن ثغرة، وما هو بواجد منها شيئًا وها هو يلوك، ويروغ، ويلغ، وفيما حرم الله تعالى ليلَ نهار، وقد كان من تجرده أن يبحث عن هكذا الأسوة، وأن ينقب عن هكذا القدوة، وإذ ليس بواجد أفضل من هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ ليس من مثال عفة ضافية، وإلا عفة هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ ليس من معين رحمة عالية، سامقة، رفيعة، راقية، وإلا عند هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولنخلص، وإلى ما مفاده أن الصيد في ماء عكر، وإنما يصيب عكره صاحبه، وإنما يلزم كدره كادره.
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم: ((كان لا يدحل على أحد من النساء إلا على أزواجه إلا على أم سليم، فقيل له في ذلك، قال: أرحمها؛ قُتل أخوها حرام معي))، فبيَّن تخصيصها بذلك، فلو كان ثمة علة أخرى لذكرها؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وهذه العلة مشتركة بينها وبين أختها أم حرام، قال: وليس في الحديث ما يدل على الخلوة بها، فلعله كان ذلك مع ولد أو خادم أو زوج أو تابع، وأيضًا فإن قتل حرام كان يوم بئر معونة في صفر سنة أربع، ونزول الحجاب سنة خمس، فلعل دخوله عليها كان قبل ذلك، وقال القرطبي: “يمكن أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم كان لا تستتر منه النساء؛ لأنه كان معصومًا، بخلاف غيره”[8].
المسألة السابعة: التملح والتلطف من بلاغة التصغير:
وهذه أم سليم، وهذا شأنها مع ولدها، وحين قدَّمته إلى هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم خويصًا، وخويدمًا وهكذا بتصغير المفردة (خاصة)، وكذا المفردة (خادم)؛ وهكذا تملحًا، وتلطفًا، لا تحقيرًا ولا ذمًّا، وحين كان ذلك، ومن بعد، بل وإحالة على عواطف أم شجية، حنية، ندية، وعلى ولدها وحين كان ومن أدبها، ويكأنها تقول ذلك؛ تملحًا، وتلطفًا، وأمام هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ لو كانت الأخرى، وإن مقام النبوة ليتأبَّاه، وإذ إن عواطف الأمومة لتنكره، وتأنفه، وتبغضه، وتكرهه، وتمقته، وتتحاشاه.
وهذا إلف نبينا صلى الله عليه وسلم ومع خادمه وإذ أخذه صافًّا، عن يمينه، إلفًا، وقربًا، وقربة، وحنانًا، ومودة، ورحمة، وهذا الذي ليس يُنتظر منه صلى الله عليه وسلم سواه، وحين كان من خُلُقه، هي تلكم المودة، ولما كان من نعته، هو هذه الرأفة، ولما كان من سمته، هي تلكم الرحمة، وحين أنزل الله تعالى فيه قرآنًا يُتلى، وبهكذا كان وصفه ونعته؛ وحين قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
وهذا فضل أنس بن مالك، وحين يصفه هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وعن يمينه؛ قربة، وتقريبًا، وهذا من حسن عشرته، وطيب صحبته.
المسألة الثامنة: هذه قيمة الموالي في ديننا:
وهذا شأن الموالي في هذا الدين، وحين الفضل، وإن وُجد، وإنما وحسبه أن فرقًا واحدًا بين المؤمنين، وهو ذلكم الذي قال عنه هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم يومًا، وفي إعلان عام للعالمين، وأن ليس من ديننا فوارق، ولا أنه ليس من ديننا طبقية، وإنما لَفارق واحد؛ وهو ذلكم التقوى والعمل الصالح؛ وحين قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، وحين قال هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، إن ربكم واحد، ألا لا فضلَ لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى؛ إن أكرمكم عند الله أتقاكم))[9].
فعن أنس بن مالك: ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا، وما هو إلا أنا، وأمي، وأم حرام خالتي، فقال: قوموا فلأصلي بكم، في غير وقت صلاة، فصلى بنا، فقال رجل لثابت: أين جعل أنسًا منه؟ قال: جعله على يمينه، ثم دعا لنا – أهل البيت – بكل خير من خير الدنيا والآخرة، فقالت أمي: يا رسول الله، خويدمك، ادعُ الله له، قال: فدعا لي بكل خير، وكان في آخر ما دعا لي به أن قال: اللهم أكْثِرْ ماله وولده، وبارك له فيه))[10].
وعن أنس، قال: ((دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم أكثر ماله وولده، وأطِلْ حياته، فالله أكْثَرَ مالي حتى إن كَرْمًا لي لَتحمل في السنة مرتين، ووُلد لصلبي مائة وستة))[11].
المسألة التاسعة: هذه بلاغة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:
وقف البلغاء عند قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وذُهل الفصحاء عن حديثه صلى الله عليه وسلم، وحين دعا لأنس بن مالك، ومن تنكير خير الدنيا، ومن تنكير خير الآخرة أيضًا، وحين كان ذلكم لكل خير شاملًا، عامًّا، سحًّا، غدقًا، مجللًا؛ ولأنه من جوامع كلم هذا النبي، الأمي، العربي، القرشي، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحين أُوتي جوامع الكلم، ومن حيث كان، ومن جوامعه اشتماله على التلخيص، وعلى البيان، وبلاغته، ومن مقتضى الحال وإفادته، وحين قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ((بُعثت بجوامع الكلم، ونُصرت بالرعب، وبينا أنا نائم رأيتني أُتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوُضعت في يدي، قال أبو هريرة: فقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تلغثونها، أو ترغثونها، أو كلمة تشبهها))[12].
فعن أنس بن مالك: ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سليم، فأتته بتمر وسمن، قال: أعيدوا سمنكم في سقائه، وتمركم في وعائه؛ فإني صائم، ثم قام إلى ناحية من البيت، فصلى غير المكتوبة، فدعا لأم سليم وأهل بيتها، فقالت أم سليم: يا رسول الله، إن لي خويصة، قال: ما هي؟ قالت: خادمك أنس، فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلا دعا لي به؛ قال: اللهم ارزقه مالًا وولدًا، وبارك له فيه؛ فإني لمن أكثر الأنصار مالًا، وحدثتني ابنتي أمينة أنه دُفن لصلبي مقدم حجاج البصرة بضع وعشرون ومائة))[13].
قال الإمام الزمخشري رحمه الله تعالى في قوله سبحانه: ﴿ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ﴾ [طه: 69]: “فإن قلت: لم وحَّد ساحر ولم يجمع؟ قلت: لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد، فلو جُمع لخُيل أن المقصود هو العدد، ألا ترى إلى قوله: ﴿ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ ﴾ [طه: 69]؛ أي هذا الجنس، فإن قلت: فلم نكَّر أولًا وعرَّف ثانيًا؟ قلت: إنما نكَّر من أجل تنكير المضاف لا من أجل تنكيره في نفسه؛ كقول العجاج: في سعي دنا طالما قد مدت، وفي حديث عمر رضي الله عنه: ((لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة))؛ المراد تنكير الأمر كأنه قيل: إنما صنعوا كيد سحريٌّ، وفي سعي دنيوي، وأمر دنيوي وآخري”[14].
وقال الإمام الفخر الرازي رحمه الله تعالى: “لم نكَّر أولًا ثم عرَّف ثانيًا، الجواب: كأنه قال: هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر، وجميع أقسام السحر لا فائدة فيه، ولا شك أن هذا الكلام على هذا الوجه أبلغ”[15].
المسألة العاشرة: طرفة وملاحة:
وحين كان من أنس بن مالك هذا، وقد كان صغيرًا، وحين كان بدء خدمته لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي العاشرة من عمره رضي الله تعالى عنه، وإلا أنه كان نحريرًا، عبقريًّا، ألمعيًّا، ولما كان من أمره أن تبدع، وحين كان من خلقه أن تنكت، ومن ابتكاره موقفًا مضحكًا، وحين أضحك منه النبي صلى الله عليه وسلم، وأضحك سِنه وفاه معه أيضًا، ولندعه يروي لنا روايته، ونقف بأنفسنا عن طرفته، ونكتته، وملاحته، وفكاهته.
وهذا درس في التربية العملية، وحين يتابع الولي مولاه، وحين يرأف به، ويمنحه من عطفه، ومودته، ولطفه، وحنانه، ما يجعله وسامًا على صدور العارفين، وما يستكنهه ذلك، ومن قاموس المحبين، والسالكين.
فعن أنس بن مالك: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خُلُقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت حتى أمرَّ على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أُنيس، أذهبت حيث أمرتك؟ قال: قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله))[16].
وعلى أن هذا خلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحين لم ينادِ أنسًا لا بالخادم صفة ولا بالخويدم نعتًا وتصغيرًا، وإنما وبتصغير اسمه، وحسب أدب نبي، وحلم رسول، وخُلُق أمين الله تعالى في أرضه.
المسألة الحادية عشرة: لماذا بكى أنس بن مالك؟
وهذا قول أنس بن مالك وهو صحابي كريم، ولئن كان شأن الصلاة عظيمًا، وحيث كانت ركن ديننا الثاني، وعموده، ولما كان الحفاظ عليها دينًا، يدين به العبد أولًا، ولما كان من موجبها أنها مكفرات، ماحيات للذنوب، والآثام، ومميطات لأذى المعاصي، والخطايا، والرزايا، وبه كان العبيد، وحين يتلمسون بها رضا ربهم سبحانه، وإنما كان عود ذلك إليهم، وخيره عامًّا عليهم.
وإلا أن ترك هذه الصلاة، أو حتى تأخيرها عن وقتها، وهو الذي آلم أنسًا، وحين لم يجد منها ما كان عليه الأولون، ومن إقامتها، وعلى وجهها، ركوعًا، وسجودًا، وقيامًا، وقعودًا، وقراءة، وتلاوة، واستفتاحًا، وفي رسالة وإلى أمثالنا الضعفاء، أن نرعاها، حق رعايتها، وأن نوليها صدق ولايتها، ومن وقتها، ومن إحسانها، ومن إتقانها؛ وحين كانت هي صلة العبد بربه، وأنسه، وأمنه، ورخاؤه، وسعادته، وفوزه، وسماحته، وطمأنينته، وسلمه، وراحته، وإلفه وانسجامه، وهداه، وسناه، وضياه، ووقاره، وهيبته، وفلاحه، وسماحته.
عن الزهري: “دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئًا مما أدركتُ إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعت”[17].
المسألة الثانية عشرة: شهوده الوقائع:
وعلى أن أنس بن مالك رضي الله تعالى؛ ولاعتبار صغر سنه، ومنه لم يكن ليتمكن من شهود كل من غزوتي بدر وأحد، وإن كان قد شارك في غزوات أخر، ولما بلغ من العمر ما يسمح له بذلك، ومن شاكلة عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وحين رده النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ولما كان قد قبله وأجازه يوم الخندق، وحين بلغ من العمر خمسة عشر عامًا، وعلى ما أنف ذكره، ومن هذه السيرة النبوية المباركة في حينه.
ويكأن أنسًا شارك في حروب الردة أيضًا، وإذ كان سيفًا من سيوف الله تعالى، مصلتًا، ومشرعًا عليهم، في وقت حاجة الصف، وإلى أمثال تربية مائدة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
والمشهور: أنه لم يشهد بدرًا لصغره، ولم يشهد أُحدًا أيضًا لذلك، وشهد الحديبية، وخيبر، وعمرة القضاء، والفتح، وحنينًا، والطائف، وما بعد ذلك[18].
المسألة الثالثة عشرة: ما رأيت أحدًا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن أم سليم:
وعلى أن هذا هو التتبع، وعلى أن هذا هو الاستنان والاقتداء، وحين كانت الصلاة دينًا، ونظامًا، وعهدًا، وعقدا لهذا الصحابي الكريم، أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه، وحين يلتقي قوله ومع عمله، ولما كانت هذه هي شهادات الناس عنه، وعن صلاته، وكيف أنها كانت أشبه بصلاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن حضره، ومن سفره أيضًا.
وعلى أن هذا أنس بن مالك نفسه، وحين شهد شهادة الحق، وفي حق عمر بن عبدالعزيز، رضي الله تعالى عنه، وحين كان أشبه صلاة بصلاة نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، وها هو عمر بن عبدالعزيز لم يَرَهُ، ويكأن هذا السنن قد تواتر، ولا سيما ونحن أمام مثل أنس بن مالك، وحين قد كبر سنه، ليشيع الخير، والسنن، والهدي، والاقتداء بين الناس، وليكونوا على مثله هدي نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن هذا، ومن جانب آخر، وإنما ينظر إليه، وكيف كان الناس، وهكذا كانت قلوبهم، أخوة في الله تعالى، سامية، عالية، سامقة، وحين يكون العبد، وهكذا من الإلف، والسماحة.
وأولاء قوم قد نزع الله تعالى ما في قلوبهم من غلٍّ، وأولاء أناس كانوا على طراز آخر، ويكأن الأمل معقود على معاشر الأتباع، أن يحذووا حذوهم، وأن يسارعوا خطوهم.
وأنت خبير، وكيف كان مسلك الأنصار، الأطهار، الأخيار، الأبرار، وحين قد تنزل القرآن الحكيم، ومن قولهم، وعلى أثرهم، ومن عقدهم، وعلى نص دعائهم؛ وحين قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].
فعن أنس بن مالك: “ما رأيت أحدًا أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمر بن عبدالعزيز”[19].
وأما عن هذا الشبه، فلم يتركوه، بل بينوه، وفصلوه، وأيضًا سننًا حسنًا، واقتداء، واهتداء.
فعن أبي هريرة: “ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله من فلان، فصلينا وراء ذلك الإنسان وكان يطيل الأوليين من الظهر، ويخفف في الأخريين، ويخفف في العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بالشمس وضحاها وأشباهها، ويقرأ في الصبح، بسورتين طويلتين”[20].
وعن أنس بن مالك: “ما رأيت أحدًا أشبه صلاة بصلاة رسول الله من هذا الفتى – يعني: عمر بن عبدالعزيز – فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات”[21].
وعن أبي الدرداء قال: “ما رأيت أحدًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من أميركم هذا – يعني معاوية”[22].
المسألة الرابعة عشرة: مرويات أنس بن مالك:
وهذا باب واسع ويكفينا فيه أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قد بوَّب في مسنده مسندًا آخر لأنس رضي الله تعالى، وحين بلغت تسعة وسبعين حديثًا، رواها هذا الكريم، الخويدم، والخويص أنس هذا، وفيه من الأحاديث ما يعد مسندًا وحده وبحق، وهو جدير بالعناية، والدراسة، والتحقيق، والشرح، والبيان، والتخريج، عملًا مستقلًّا خالصًا.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: “مسند أنس بن مالك (الحديث 13121 – 13200)”[23].
[1] صحيح مسلم: 2309.
[2] صحيح البخاري: 2768.
[3] صحيح الترغيب، الألباني: 3769.
[4] صحيح مسلم: 2481.
[5] صحيح البخاري: 5999.
[6] صحيح البخاري: 1902.
[7] عمدة القاري، العيني: ج ١١/ ٩٩.
[8] عمدة القاري، العيني: ج ١١/ ٩٩.
[9] غاية المرام، الألباني: 313، خلاصة حكم المحدث: صحيح.
[10] صحيح مسلم: 660.
[11] سير أعلام النبلاء، الذهبي: ج ٣/ ٣٩٩، وأخرجه ابن عساكر ٣/ ٨٠ ب، وأخرجه بنحوه البخاري في الأدب المفرد (653)، وابن سعد 7/ 19 من طريقين عن سنان بن ربيعة، عن أنس، وسنده حسن.
[12] صحيح البخاري: 7273.
[13] صحيح البخاري: 1982.
[14] الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل، الزمخشري: ج ٢/ ٥٤٥.
[15] تفسير الرازي، الرازي: ج ٢٢/ ٨٥.
[16] صحيح مسلم: 2310.
[17] صحيح البخاري: 530.
[18] البداية والنهاية، ابن كثير: ج ٥/ ٣٥٣.
[19] إتحاف الخيرة المهرة، البوصيري: 7/297، خلاصة حكم المحدث: رواته ثقات.
[20] صحيح النسائي، الألباني: 982.
[21] ضعيف النسائي، الألباني: 1134.
[22] جمع المفقود الكثير من معجم الطبراني الكبير، البيروتي: حديث رقم: 132.
[23] مسند أحمد بن حنبل: المجلد الثالث.