أحمد الفران يكتب: المؤسسة الثقافية المصرية تبحث عن هويتها (3)
ثقافة أول اثنين:
ثمة ما يمكننا التوقف أمامه، أن أثر البعثات امتد ليشمل كل مناحي الحياة داخل الدولة المصرية، على الرغم من أن هدف محمد علي من تلك البعثات، هو خلق جيش قوي حديث، وتزويد الوالي بالكوادر اللازمة للجيش لدعم بناء الدولة الحديثة، وهو ما يتضح في توزيع تخصصات البعثات والتى كانت على النحو التالي: 35% للعلوم العسكرية والبحرية، 27% للصناعات المختلفة، 18% للهندسة، 7% للطب، 7% للإدارة، و4% للزراعة، و 3% للعلوم.
غير أن نتائج البعثات شكلت ملامح الحركة الثقافية داخل مصر حتى يومنا هذا، لتبدأ الدولة في إنشاء المطابع، وحركة الترجمة الكبرى، وعلي مستوى التعليم، اشتد الصراع بين الأزهر والمدارس الجديدة، لتكون الغلبة للمدارس الجديدة التى استحوذت على الرعاية الكاملة من رأس الدولة، وجعلت الهوة تتسع بين الأزهر والمدارس الجديدة، وأصبحت المناهج تتباين تبايناً شديداً، فمناهج الأزهر تضعف وتذوى وهى لا تزال على شكلها القديم من غير أي تجديد، أما المدارس الجديدة تنمو وتتطور بشكل متسارع على يد رجال البعثات وعلى رأسهم عثمان نور الدين باشا.
مطبعة بولاق
ومن المثير أن أغلب الكتابات التاريخية تجاهلت دور عثمان نور الدين، في ميلاد تلك النهضة داخل الدولة المصرية، رغم تاريخه الكبير في تحريك تلك النهضة، والذي ولد 1794 في أسرة تركية من جزيرة “مدلي أو لسبوس اليوناينة ببحر إيجة”، التحق أبوه للعمل في الخدمة بقصر محمد على “فراشاً” أو “سقاء”، اختره الوالي ليكون أحد أعضاء البعثة الأولى التى خرجت لإيطاليا في 1809، ومنها انتقل إلى فرنسا وظل بها حتى عام 1817، وكان ذلك بترشيح من قنصل السويد العام بالقاهرة “يوسف بكتى”.
وحينما عاد من البعثة، التحق للعمل “كاشفاً” في حرس محمد على الحربي، وبأوامر من الوالي بدأ في تنظيم الكتب التى أحضرها معه من فرنسا، لتتكون أول مكتبة في عصر محمد على بقصر إبراهيم باشا ببولاق، ثم طور عثمان نور الدين الفكرة في 1820 ليؤسس أول مدرسة نظامية في عصر محمد على “مدرسة بولاق”، وتولى نظارتها والإشراف عليها، وكان يدرس لتلاميذها الهندسة واللغة الفرنسية والإيطالية والعربية.
محمد على
من مقتنيات تلك المكتبة يمكننا أن نفهم ما كان يدور برأس عثمان نور الدين، وما يسعى إليها من إقامة نموذج ثقافي جديد للدولة المصرية، متأثراً بما تعلمه بالمدارس الإيطالية والفرنسية خلال فترة بعثته، ولعل من حسن الحظ ان الرحالة الإيطالي “بروكي” قدم لنا سرداً لما تحتويه تلك المكتبة، فقال أنه رأي بها كتباً تبحث في “فنون حرب والزراعة والرياضة، وكتباً في القانون والتشريع والدساتير الأوروبية، والأدب من بينها الكوميديا الإلهية لدانتي ونسخاً من كتابات “فولتير” و”روسو” والكتاب المقدس، ومجموعة من القصص الفرنسية لكتاب مختلفين.
غير أن “بروكي” تعجب أنه لم يجد بتلك المكتب كتباً تخص مصر وتاريخها، ولم يجد من هذا النوع إلا “رحلة فولني” للمستشرق الفرنسي “قسطنطين فرانسوا فولني”، والكتاب الكبير الذي وضعه المعهد الفرنسي “وصف مصر”، وبعض أعداد من جريدة “الديكاد”.
تتدرج عثمان نور الدين في خدمة الوالي، حتى أصبح قائد البحرية المصرية “الأسطول المصري” وكان لقيادته فضل كبير في إسقاط عكا وإحراز النصر النهائي في حرب الشام الأولى “الحرب المصرية العثمانية”، ونال ثقة محمد على التى لما ينالها أحد من قبل، فكان يناديه ب”ولدي عثمان”، وزوجه من أحدى جواري القصر، وبنى له منزلاً بالقرب من قصر رأس التين.
أول كتاب تصدره مكتبة بولاق لطلاب مدرسة بولاق ١٨٢٢
وعلى الرغم من أهمية التاريخ الحربي لعثمان نور الدين، إلا أن أثره على المستوى الثقافي والتعليمي أشد تأثيراً وأكثر خطورة من الجانب العسكري، فقد استطاع أن يقود حركة الترجمة في مصر، والتى أرى أنه أكثر آثراً من رفاعة الطهطاوي نفسه، وعلى مستوى التعليم لم يتوقف دوره عند إنشاء مكتبة ومدرسة بولاق، بل قام بتأسيس مدرسة القصر العيني وكان أول مدير لها، وعلى مشورته أنشئت مدرسة أركان الحرب بقرية جهاد آباد “بين الخانكة وأبو زعبل”، ومن خلالها تسلل “جومار” لإرسال البعثات إلى فرنسا، بل عهد محمد على إلى “جومار” بالإشراف على تلك البعثات وتأسيس أول مكتب مصري للبعثات بالخارج.
غير أن خلافاً عسكرياً وقع بين عثمان نور الدين ومحمد على باشا في عام 1833، أطاح بتاريخ الرجل، حينما رفض محمد على اقتراح عثمان نور الدين بإخماد عصيان جزيرة كريت بشكل سلمي والإبقاء على حياة رؤوس العصيان، إلا أن محمد على أراد قتل بعضهم ليكون عبره لمن يعتبر، ولما رأي عثمان أن في ذلك إعلالاً لمكانته وعلو مرتبته، استعفي من وظيفيته، وانتقل إلى الإستانة تاركاً أسرته برأس التين، وطلب الانضمام إلى خدمة السطان العثماني، ويبدو أن القدر عاقبه سريعاً على خيانته للوالي، فسريعاً تفشى مرض الطاعون بتركيا ليلقى حتفه بعد عام واحد فقط.
رسم عثمان نور الدين بما قدمه ملامح الحركة الثقافية والفكرية في مصر، فكان أول من قاد حركة الترجمة، وأول من أسس وأدار المدارس الحديثة في مصرـ وكان أول من أسس مكتبة على الطراز الحديث، ولتلاميذ مدرسته “مدرسة بولاق” قامت مطبعة بولاق بإصدار أول كتاب لها “القاموس الإيطالي العربي” للإيطالي رفاييل عام 1822، فكيف كان شكل تلك المؤسسات في عصر محمد على وخلفائه؟.