التاريخ الإسلامي

شيء من العز الذاهب


شيء من العز الذاهب

تقول زيجريد هونكه: «وقد حمل مشعل الحضارة العربية عَبْرَ الأندلس ألوفٌ من الأسرى الأوروبيين، عادوا من قرطبة وسرقسطة، وغيرها من مراكز الثقافة الأندلسية…»[1].

 

ما جعل المستشرقة الألمانية (زيجريد هونكه) تعبر بهذه الحقيقة عن الأندلس: هو قرون من العزِّ والحضارة فرضت هيمنتها على أوروبا آنذاك، لكنها الأيام: ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 140].

إن وراء كل كلمة في عبارتها الآنفة: حضارة علمية وأخلاقية وعسكرية، تفصح عنها عِزَّةُ المسلمين وتعاملهم مع الأسرى وتعليمهم، حتى صاروا رسلًا لحضارة الإسلام بعد إطلاق سراحهم! وأنى لأُمَّة غير أمة الإسلام أن تفعل هذا؟!

 

ونقلت تلك المستشرقةُ أيضًا عن الأسقف (ألقارو) رئيس القساوسة وأعلى قامةٍ مسيحيةٍ في قرطبة- نقلت في كتابها: (الله ليس كذلك) زفراته وحسراتِه حين رأى انكباب النصارى على النَّهْل من الثقافة العربية، لقد كان يصيح متحسرًا عليهم ويقول: “واحسرتاه! إن الشباب النصارى جميعهم اليوم لا يعرفون سوى لغة العرب! ولئن حاول أحدٌ إقناعَهم بالاحتجاج بكتب النصارى فإنهم يردون باستخفاف! وامصیبتاه! إن النصارى قد نسوا حتى لغتهم الأم، فلا تكاد تجد اليوم واحدًا في الألف يستطيع أن يُدبِّج رسالةً بسيطةً باللاتينية السليمة، بينما العكس من ذلك لا تستطيع إحصاء من يحسن منهم العربية؛ بل إن منهم من يقرِضون الشعر بالعربية، حتى لقد حذقوه وبذُّوا في ذلك العربَ أنفسَهم”[2]؛ انتهى كلامه في كتابها.

 

ويقول المستشرق البلجيكي (سارتون) عن ضرورة تعلُّم العربية أيام الفردوس المفقود (الأندلس)، يقول: «لقد كان ينبغي لأيِّ كائنٍ إذا أراد أن يُلِمَّ بثقافة عصره وبأحدث صُوَرِها أن يَتَعَلَّم اللغة العربية»[3].

 

كم صَرَّفَتْنا يَدٌ كنا نصرِّفها
وباتَ يملِكُنا شعبٌ مَلَكْناه[4]

 

ونقل المؤرخ الفرنسي (جوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب في الأندلس) أن كثيرًا من المفردات الفرنسية هي عربية الأصل والمنشأ؛ مما جعلها شاهدةً بألسنة الفرنسيين على هيمنة اللسان العربي على العالم![5]

 

أما اليوم فنحن مكانهم بالأمس! وصدق البشير الإبراهيمي حين قال: “والأُمَّة التي لا تغضب للعِزِّ الذاهب ترضى بالذل الجليب”[6].

 

لقد كان العقل العربي مفخرةً للمنتمين له من غير بنيه أيام الأندلس، فكانت البعثاتُ الأوروبيةُ تتوافد على بلاط الجامعات العربية، ففي سنة 312هـ في عهد عبدالرحمن الناصر بلغ عدد طلاب إحدى البعثات زهاء 700 طالب وطالبة، ترأسها الأميرة (أليزابيث) ابنة خال ملك فرنسا: لويس السادس. كما بعث (الملك فيليب) بعثة كذلك زمن الخليفة هشام الثاني عدد طلابها 215 طالبًا وطالبة، وكذلك فعل ملك (ويلز) مع الخليفة هشام الثالث؛ بل وأرسل هذا الملك مع بعثته رسالة يستعطف فيها الخليفة كي يأذن فقط للبعثة بالدراسة في بلاده، قال فيها: “سمِعنا عن الرُّقيِّ العظيم الذي تتمتَّع بفيضه الصافي معاهدُ العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا ولأبنائنا اقتباس هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم؛ لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يسودُها الجهلُ من أربعة أركان … “[7].

 

قال حافظ:


[1] زيجريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب، ص532.

[2] زيجريد هونكه: الله ليس كذلك، ص: 42

[3] حسان شمسي باشا: هكذا كانوا يوم كنا، ص8، وانظر: أحمد علي الملا: أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوروبية، ص: 110، 111.

[4] بيت من قصيدة: مجد الإسلام، للشاعر محمود غنيم.

[5] حضارة العرب، ص: 457.

[6] الآثار، محمد البشير الإبراهيمي، (2/ 430).

[7] أوروبا ترسل بعثاتها إلى الأندلس، ص: 90 وما بعدها – دراسات في تاريخ الفكر العربي، ص: 386.

[8] من قصيدة للشاعر: حافظ إبراهيم.





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى