آدم عليه السلام (1)
آدم عليه السلام (1)
نتحدَّث إليكم عن آدم عليه السلام في نقاطٍ تتناول قصَّة خَلْقه، وخلقه من أصناف تراب الأرض، ومقدار طوله، والشجرة التي نُهي عن الأكل منها، ومقدار لبثه في الجنة، وإهباطه من الجنة، وعدد أبنائه، وهل سمَّى ابنًا له عبدالحارث؟ وذِكر هبته مِن عمره لداود عليه السلام، وما ذُكر عن شعره في قتل ابنه، وهل بَنى الكعبةَ؟ وهل توسَّل إلى الله بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ ورؤية النبي محمد صلى الله عليه وسلم له ليلة الإسراء والمعراج، ثم نتحدَّث عن وفاته، ومكان دفنه، ثم ذكر احتجاج موسى وآدم بالقدَر، ثم ذكر تأخُّره عن الشفاعة يوم القيامة.
أمَّا قصَّة خلقه: فقد ذكرها الله تبارك وتعالى في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، فهو يقول في سورة البقرة: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 30 – 33]، وقد ذكَر الله تبارك وتعالى أنه خلَقَه مِن تُراب، وأنه خلَقه مِن طين، وأنه خلقه من صلصال كالفخَّار مِن حمَأ مَسنون، وأنه خلقه من طين لازب؛ حيث يقول في سورة آل عمران: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، ويقول في سورة الأعراف: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 11، 12]، ويقول في سورة الحجر: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ [الحجر: 26 – 33]، ويقول في سورة السجدة: ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ﴾ [السجدة: 7]، ويقول في سورة الصافات: ﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ﴾ [الصافات: 11]، ويقول في سورة ص: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ﴾ [ص: 71]، ويقول في سورة الرحمن: ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴾ [الرحمن: 14]، وأصل ذلك أن الله تبارك وتعالى أخَذ مِن تراب الأرض قبضةً فخَلَق منها آدم، وقد اجتمع في هذه القبضة من التراب جميع ألوان تراب الأرض؛ ولذلك جاء بنو آدم على هذه الألوان، وهذه القبضة قد بلَّها اللهُ تعالى بالماء، ثم مرَّت عليها مدَّة حتى تحجرت فصارت صلصالًا.
والصلصال: هو الطِّين المتحجر؛ لأنَّ الطين إذا طُبخ بالنار سمِّي فخارًا، وإذا لم يُطبخ بالنار لكنه تُرك حتى تحجَّر يسمَّى صلصالًا، فقوله تعالى: ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴾ [الرحمن: 14]، أي: من طِين تحجَّر حتى صار شبيهًا بالفخَّار، وهو المطبوخ بالنار في تحجُّره وصلصلته إن قلنا: إنَّه مِن صَلصل، بمعنى: صوَّت، وإن قلنا: إنَّه مِن صل، بمعنى: تغيَّر، فإنَّ الطِّين إذا مضت عليه مدَّة أنتن واسودَّ فيصير حمأ مَسنونًا، أي: أسود متغيرًا له رائحة خاصَّة، فإذا يبس وتحجَّر صار كالفخَّار.
والطين اللَّازب: هو اللَّاصق، ويقال أيضًا: لزب الطِّين إذا صلب.
والحمأ المسنون: هو الطِّين الأسود المتغيِّر الرائحة المنتن.
وقد خلق اللهُ تبارك وتعالى آدمَ بيده، وصوَّره، وجعل طولَه ستِّين ذراعًا، وقد روى أحمد وأبو داود والترمذي وقال الترمذي: حسن صحيح مِن حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ الله خلَق آدمَ مِن قبضةٍ قبضها مِن جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قَدْر الأرض؛ فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والسَّهل والحزن وبين ذلك، والخبيث والطيِّب وبين ذلك))، كما روى البخاري ومسلم مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((خلَق الله آدمَ وطوله ستون ذِراعًا، ثمَّ قال: اذهب فسلِّم على أولئك النَّفَر مِن الملائكة فاستمِعْ ما يجيبونك؛ فإنَّها تحيَّتُك وتحيَّةُ ذرِّيَّتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليكم ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله، فكلُّ مَن يدخل الجنَّةَ على صورة آدَم، فلم يزَلِ الخلق يَنقص حتى الآن)).
أمَّا الشجرة التي نَهى الله آدمَ عن الأكل منها؛ فقد ذكَر بعضُ الناس أنها الحنطة، وبعضهم يَذكر أنها التِّين، وبعضهم يَذكر أنَّها العنب، ويذكر آخرون غير ذلك، ولم يصحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ في تعيين الشجرة، ولو كان في تعيينها خيرٌ لعيَّنها اللهُ عز وجل وبيَّنها، وما دام الله عز وجل لم يبيِّن نوعَ الشجرة ولم يبيِّنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فلا حاجة إلى تكلُّف تعيينها ولا إلى مَعرفة نوعها، ولا ينبغي لأحد أن يقول على الله بغير علم، إنَّما المقصود أنَّ الله تبارك وتعالى خلَق آدمَ وأمَرَه أن يسكن الجنَّةَ هو وزوجته التي خلقها له وأخرجها مِن ضلعٍ من أضلاعه؛ فقد روى البخاريُّ ومسلم مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((استَوصوا بالنِّساء خيرًا، فإنَّ المرأة خُلقتْ مِن ضِلع، وإنَّ أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرتَه، وإن تركتَه لم يزل أعوج؛ فاستوصوا بالنِّساء خيرًا)).
وقد نَهى الله آدمَ وزوجَه أن يأكلا مِن شجرةٍ عيَّنها لهما، وفي ذلك يقول الله عز وجل في سورة البقرة: ﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 35 – 37]، ويقول في سورة الأعراف: ﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 19 – 23].
ويقول الله تعالى في سورة طه: ﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [طه: 117 – 122]، وقوله تعالى: ﴿ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾؛ هو في الحقيقة مِن باب قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة؛ إذ ليس المراد هنا المعصية التي حمى اللهُ منها أنبياءه ورسله؛ إذ ليس الأكل من هذه الشَّجرة كشرب الخمر أو الزِّنا أو قتل النفس بغير حقٍّ أو فساد في الأرض، وقد وصف الله تبارك وتعالى أكلَ آدم من الشجرة بأنه صدر عن نسيان حيث يقول: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 115]، والإنسان إذا فعل الشيء وهو ناسٍ رُفع عنه القلم، وإنما عاتبه الله تبارك وتعالى لتنبيهه وتنبيه ذرِّيَّته مِن دسائس إبليس والاحتراس من وسوسته؛ ولذلك يقول تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 27]، فالمقصود من هذا التصوير في قوله: ﴿ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾ [طه: 121] هو التنصيص على أنَّ الله رفع الإصرَ عن آدم حيث قال: ﴿ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [طه: 122]، فصار كأنه لم يأكل من الشجرة.
وقد اقتضَتْ حكمةُ الله أن يأكل آدم مِن الشَّجرة، والله يعلم أنَّه آكلٌ منها لا محالة؛ لأنَّه لا بدَّ وأن يسكن الأرضَ ويعمرها هو وذرِّيَّته مِن بعده، ويجعل الله فيهم خيرًا كثيرًا، وعبادًا صالحين وأنبياء ومرسلين.
ولا بدَّ مِن الابتلاء والامتحان والاختبار في هذه الأرض، فكانت الصُّورة الأولى للامتحان هي نهي الله له أن يأكل مِن الشجرة ونسيان آدم هذا النهي وأكله منها.
وقد اختلف أهلُ العلم في الجنَّة التي أُمر آدم أن يَسكنها هو وزوجُه، وأكثر السَّلَف مِن هذه الأمَّة على أنها جنَّة المأوى؛ لأنَّ الصفات التي وصف الله بها هذه الجنَّة في قوله: ﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ﴾ [طه: 118، 119] تدلُّ على أنَّها جنَّة النَّعيم، كما أنَّ الحديث الصحيح في قصَّة الشفاعة يوم القيامة أنَّ آدم يقول للذين طلبوا منه الشفاعة: ((وهل أخرجكم مِن الجنَّة إلا خطيئةُ أبيكم)).
وقد ذهب بعضُ السَّلَف إلى أنَّها جنَّة في مكان عالٍ مِن الأرض، والراجح عند أهل العلم أنَّها جنَّة المأوى، فإذا قيل: إن كانت جنَّة المأوى فكيف يَخرج آدمُ منها؟ ومَن سكَن جنَّةَ المأوى لا يخرج، فالجواب هو: أنَّ مَن يسكن جنَّة المأوى ولا يخرج منها هو مَن يدخلها جزاء على عمله بعد أن يَقضي عمرَه في الدنيا؛ حتى إذا مات على دِين الأنبياء والمرسَلين وتفضَّل الله عليه بدخول الجنَّة فإنه لا يَخرج منها ولا يتحوَّل عنها؛ لأنَّها دار جزاء المتَّقين، على حدِّ قوله تعالى في سورة النحل: ﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 30 – 32]، أمَّا كون آدم يسكنها قبلَ أن يعمل شيئًا فهذا للامتحان والابتلاء والاختبار؛ لتكون هذه الصُّورة ماثلةً أمام أعين ذرِّيته دائمًا، ليحذروا إبليس الذي أخرجَ أبويهم مِن الجنة.
أمَّا مقدار لبث آدم في الجنة: فلم يعيِّنْه اللهُ، ولم يعيِّنْه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، والقول فيه قولٌ على الله بلا علم، وقد بيَّن الله تعالى أنه أهبط آدم مِن الجنة كما قال في سورة البقرة: ﴿ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 36 – 38]، وقال في سورة الأعراف: ﴿ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ [الأعراف: 24، 25]، وقال في سورة طه: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 123، 124].
أمَّا عدَد أبناء آدم عليه السلام: فلم يصحَّ فيهم أيضًا خبرٌ عن الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض الناس يقول: إنَّ حوَّاء ولدت لآدم أربعين ولدًا في عشرين بطنًا، وبعضهم يقول: ولدت حواء مائة وعشرين بطنًا، في كلِّ بطن ذكر وأنثى، وقال ابن كثير في تاريخه: وقد ذكر أهلُ التاريخ أنَّ آدم لم يَمُت حتى رأى من ذرِّيَّته من أولاده وأولاد أولاده أربع مائة ألف نسمة؛ اهـ، والعلم في ذلك كله عند الله عز وجل.
أمَّا دعوى أنَّ آدم سمَّى ولدًا له عبدالحارث وأنه المشار إليه في قوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [الأعراف: 189 – 191]، وهذا قول على آدم بغير دليلٍ صحيح، وتأويل للآية على غير وجهِها، فأمَّا ما رواه أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم مِن طريق عبدالصمد بن عبدالوارث، عن عمر بن إبراهيم، عن قتادة، عن الحسن البصري، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لمَّا ولدتْ حوَّاء طاف بها إبليسُ، وكان لا يعيش لها ولد فقال: سميه عبدَالحارث فإنه يَعيش، فسمَّتْه عبدالحارث فعاش، وكان ذلك مِن وحي الشيطان وأمره)).
وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلَّا مِن حديث عمر بن إبراهيم، ورواه بعضهم عن عبدالصمد ولم يرفعه، قال ابن كثير في تاريخه: فهذه علَّةٌ قادِحة في الحديث أنَّه رُوي موقوفًا على الصَّحابي، وهذا أشبه، والظاهر أنه تلقَّاه من الإسرائيليات، وهكذا رُوي موقوفًا عن ابن عباس، والظاهر أنَّ هذا متلقى عن كَعب الأحبار وذَويه؛ والله أعلم، وقد فسَّر الحسنُ البصري هذه الآيات بخِلاف هذا، فلو كان عنده عن سمرة مرفوعًا لما عدل عنه إلى غيره؛ اهـ.
وهذا تفسيرٌ عجيب لهذه الآيات، كيف يكون أول شِرك في الأرض مِن آدم وزوجه، والمعروف أنَّ الشِّرك الأصغر أكبر مِن الزِّنا والقتل وشرب الخمر والسرقة، كما أنَّ المعروف أنَّه لم يقع شِركٌ في الأرض إلَّا في أمَّة نوح عليه السلام، ولا شك أنَّ المراد بقوله: ﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ هو آدم، وأن قوله: ﴿ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾، يعني: حواء، أمَّا قوله: ﴿ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا ﴾؛ إلى آخر الآيات، فهو انتِقال بعد ذِكر آدم وزوجته، واستطراد إلى ذِكر الجِنس والذرِّيَّة، فإنَّ من الأساليب البلاغية أنه قد يذكر الشيء ثم يستطرد إلى ذكر جنسه؛ على حدِّ قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴾ [المؤمنون: 12، 13]، فالمخلوق من الطِّين آدم، والمخلوق مِن النطفة بنوه وذرِّيته، وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ﴾ [الملك: 5]؛ فالمعلوم أنَّ رجوم الشياطين ليست هي أعيان مصابيح السَّماء، ولكنَّه استِطراد من شخصها إلى جنسها؛ فآدم عليه السلام يحميه الله مِن الشِّرك الأصغر ومن الشِّرك الأكبر.
وإلى فصلٍ قادم إن شاء الله، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.