لا للتضحية بالبشر.. الفن المصرى القديم يفدى الإنسان بالرسم فى المقابر
ثقافة أول اثنين:
واحد من أهم الكتب المرتبطة بالحضارة المصرية القديمة كتاب أرنست جومبرتش “قصة الفن”، والذى صدرت ترجمته عن هيئة البحرين للثقافة والآثار، والتى قام بها عارف حديفة، مراجعة زينات بيطار.
ويقول أرنست، فى الكتاب، يوجد شكل ما من الفن فى كل مكان فى العالم، غير أن قصة الفن بوصفها جهدا متصلا لا تبدأ فى كهوف جنوب فرنسا، أو بين هنود أمريكا الشمالية، فليس هناك تراث مباشر يربط هذه البدايات بأيامنا، لكن هناك تراثا مباشرا انتقل من المعلم إلى التلميذ، ومن التلميذ إلى المعجب أو الناسخ، وهذا التراث يربط الفن فى عصرنا، يربط أى منزل أو ملصق بالفن الذى نشأ فى وادى النيل منذ نحو خمسة آلاف عام خلت، ونحن سنرى أن معلمى الإغريق قد قصدوا مصر للتعلم، ونحن جميعا تلاميذ الإغريق، وعلى هذا فإن مصر بالغة الأهمية لنا، هكذا يرصد أرنست جومبرتش، الكاتب والمفكر والمؤرخ البريطانى، فى كتابه قصة الفن.
والكتاب يدعو إلى إثارة النقاش حول تاريخ العمارة والنحت والرسم، وقد جاء الفصل الثانى تحت عنوان “فن للأبدية.. مصر وبلاد الرافدين وكريت”، وبالطبع سوف نتوقف عند الجانب المتعلق بمصر، حيث يذهب المؤلف إلى أن ما حدث فى مصر كانت فكرته الجمع بين الفن والرسالة، لأن الأهرامات والمقابر المصرية وما بها من فنون كان الغرض منه هو “الحياة الأخرى”، كما أنه يوضح جانبا مهما فى الحضارة المصرية، يمكن القول بأنه جانب إنسانى، حيث يقول “هذا الجمع بين التناسق الهندسى والملاحظة الدقيقة للطبيعة يتميز بهما الفن المصرى، والدراسة الأفضل له تكون فى دراسة المنحوتات النافرة والصور التى تزين جدران القبور، لكن المؤلف هنا يستدرك قائلا: والحق هو أن كلمة «تزين» لا تناسب فنا لم يعمل من أجل أن يراه أحد سوى روح الميت، فالواقع هو أن هذه الأعمال لم يقصد منها الاستمتاع، بل “ديمومة الحياة”.
ويشرح أرنست جومبرتش، فكرة إنسانية الفن المصرى، فيقول إنه فى الماضى الغابر الكالح، جرت العادة أن يرافق الخدم والعبيد سيدهم القوى إلى قبره، وكان يضحى بهم لكى يصل إلى العالم الآخر مع حاشية مناسبة، وفيما بعد اعتبرت هذه الأعمال المروعة إما قاسية وإما مكلفة، فكان الفن هو المنقذ، حيث منح عظماء هذه المعمورة صورا وأبدالا عوضا عن الخدم.
يقول الكتاب إن الأعمال المصرية القديمة محيرة بعض الشىء، لأن الفنانين المصريين كانوا يصورون واقع الحياة تصويرا مختلفا جدا عن تصويرنا، إذ كانوا يهتمون أكثر ما يهتمون بالاكتمال وليس بالجمال، كانوا يرسمون من الذاكرة وفق قواعد صارمة تكفل لهم أن يبرز كل شىء داخل الصورة فى وضوح تام، كانت طريقتهم تشبه فى الحقيقة طريقة راسم الخرائط وليس طريقة الرسام.
ويرى أرنست جومبرتش أن الفن المصرى لا يقوم، كما هو الحال دائما، على ما استطاع الفنان رؤيته فى لحظة معينة، بل على ما كان يعرف أنه يخص شخصا ما أو منظرا ما، ومن هذه الأشكال التى تعلمها وعرفها صنع تماثيله وتصاويره تماما مثلما صنع الفنان القبلى أعماله من الأشكال التى تمكن منها، والفنان لا يجسد فى الصورة معرفته للأشكال والهيئات فحسب، بل معرفته لدلالتها أيضا، نحن نصف أحيانا أحد الأشخاص بأنه رئيس كبير، والمصرى رسم السيد أكبر من الخدم، أو حتى أكبر من زوجته.
يقول المؤلف: لا شىء فى هذه الصور يشير إلى أنها اعتباطية، لا شىء يبدو وكأنه بالإمكان أن يكون فى مكان آخر أيضا، فتناول قلم ومحاولة نسخ إحدى هذه الرسوم المصرية “البدائية” أمر جدير بالعناء، وتبدو محاولاتنا على الدوام «خرقاء» وملتوية وغير متوازنة، إن إحساس المصرى بالنظام فى كل تفصيل قوى جدا، بحيث يبدو أن أى تنويع بسيط يقلبه بالكلية.