التاريخ الإسلامي

إلى من يتوهم الصراع بين العقل والنقل


إلى من يتوهم الصراع بين العقل والنقل

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

مما يحزنك وتأسف له كمسلم غيور تغار على دينك، وتخاف على إخوانك عندما تخاطب شخصًا يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسولُ الله بـ “قال الله” و”قال رسوله صلى الله عليه وسلم”، ثم تتفاجأ بإجابته: إنه لم يقتنع! ويتوهم أن هناك صراعًا وتعارضًا فيما جاءت به الشريعة الإسلامية ومصادرها مع العقل، ويعيش دور المنقذ لحل هذا الصراع القائم بين العقل والنقل، ثم يُنادي بعدم امتهان عقل الإنسان وقدسيته، وتعظيم العقل المجرد على تعظيم النصوص الشرعية، ومصادر التشريع، وأنه لا يُسلم لدليل من القرآن أو السنة دون اقتناع العقل، وذلك بإخضاع شرع الله كاملًا لعقل الإنسان المتقلِّب الناقص، والمجرد من النقل الصحيح، فالحق عنده ما وافق الهوى، وما استحسنَتْه النفس الأمَّارة بالسوء، فهو كحال اليهود؛ يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، فيأخذ ما يشاء ويترك ما يشاء، قد زيَّن له الشيطان سوء عمله، وأعمى بصيرته قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [محمد: 14].

 

قال السعدي: أي: لا يستوي من هو على بصيرة من أمر دينه علمًا وعملًا، قد علم الحق واتَّبَعه، ورجا ما وعده الله لأهل الحق، كمن هو أعمى القلب، قد رفض الحق وأضلَّه، واتَّبَع هواه بغير هدًى من الله، ومع ذلك، يرى أن ما هو عليه من الحق، فما أبعد الفرق بين الفريقين! وما أعظم التفاوُت بين الطائفتين؛ أهل الحق وأهل الغي! انتهى.

 

فما جاء بالوحيَينِ كُلُّه حقٌّ يصدق بعضه بعضًا، وهو موافق للفطرة المستقيمة، ولا يتعارض مع العقل الصريح بإدراك الحقائق الشرعيَّة في القرآن والسنة أصلًا، والمؤمنون أبصر الناس بهذه الحقائق؛ لجمعهم بين النقل الصحيح والعقل الصريح، قال تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122].

 

ومما ينبه عليه أنه قد يتوهَّم الإنسان ويشكل عليه وجود تعارض بين النقل والعقل في الظاهِرِ، فماذا يفعل؟ يُقدم النَّقْل على العقل، ولا شكَّ؛ لأنَّ النَّقْل عِلْمُ الخالِقِ الكامِلِ، والعَقْلَ عِلْمُ المخلوقِ القاصِر، وهذا التعارض يكون بحسب الظاهر لا بحقيقة الأمر، فالقدسية المطلقه للوحْيَينِ، فالوحي هو الذي يَهْدِي الأنبياء، ويَهْدِي أَتْباعَهم إلى الحق، ويدل على هذا قول الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴾ [سبأ: 50]، وقوله سبحانه: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 54]، فلا هداية إلا لمن اتَّبَع الوحي، ومن لم يتبعه فقد ضلَّ ضلالًا مبينًا؛ لذلك لا نهتدي إلى الله بالعقل المجرد من نور الشرع، فكما أنَّ العين لا تبصر إلا بنور الشمس، كذلك العقل لا يبصر إلا بنور الشريعة كما قال شيخ الإسلام: “هذا طريق النجاة من العذاب الأليم، والسعادة في دار النعيم، والطريق إلى ذلك الرواية والنقل؛ إذ لا يكفي من ذلك مجرد العقل؛ بل كما أن نور العين لا يرى إلا مع ظهور نور قدَّامه، فكذلك نور العقل لا يهتدي إلا إذا طلعت عليه شمس الرسالة”؛ انتهى، [مجموع الفتاوى 1/ 6].

 

قال تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “كل ما يدل عليه الكتاب والسُّنَّة فإنه موافق لصريح المعقول، والعقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح؛ ولكن كثيرًا من الناس يغلطون إما في هذا وإما في هذا، فمن عرف قول الرسول ومراده به كان عارفًا بالأدلة الشرعية، وليس في المعقول ما يخالف المنقول..”؛ [مجموع الفتاوى 3/ 339].

 

لذلك تجد أن العقل يكون تابعًا للنقل، فهما أخوان لا عدوان يتصارعان؛ بل نصيران لبعضهما، كما قال ابن القيم: “والسمع الصحيح لا ينفكُّ عن العقل الصريح؛ بل هما أخوان نصيران، وصَلَ الله بينهما، وقرن أحدهما بصاحبه؛ فقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الأحقاف: 26].

 

فذكر ما ينال به العلوم؛ وهي: السمع والبصر، والفؤاد الذي هو محل العقل، وقال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك: 10]، فأخبروا أنهم خرجوا عن موجب السمع والعقل، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ [يونس: 67]، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [الرعد: 4]، وقال: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، فدعاهم إلى استماعه بأسماعهم، وتدبُّره بعقولهم، ومثله قوله: ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ﴾ [المؤمنون: 68]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]، فجمع سبحانه بين السمع والعقل، وأقام بهما حجته على عباده، فلا ينفك أحدهما عن صاحبه أصلًا.

 

فالكتاب المنزَّل والعقل المدرك حُجة الله على خلقه، وكتابه هو الحُجة العظمى، فهو الذي عرفنا ما لم يكن لعقولنا سبيل إلى استقلالها بإدراكه أبدًا، فليس لأحد عنه مذهب، ولا إلى غيره مفزع، في مجهول يعلمه، ومشكل يستبينه، وملتبس يوضحه”؛ انتهى [الصواعق المرسلة 2/ 457].

 

فالمتأمل يجد أن النتيجة المتوقعة لمن يعاند ويجادل على تعظيم العقل وحده دون تعظيم الشريعة في قلبه- هي إسقاط ما أوجبه الله عليه سواء علِمَ بهذا أو لم يعلم؛ ومِن ثمَّ لا تستغرب أن ترى أو تسمع أحدهم لا يلتزم بالفرائض، ويقترف المحرَّمات بحجة عدم اقتناعه التام بمصادر التشريع، وما يترتب عليها من أحكام، أو يقوم على تفسير الوحيين بفهم جديد سقيم، لم يسبقه إليه أحد من السلف الصالح في القرون المفضلة، والذين لم يُسمَع منهم حرفٌ واحدٌ أنهم ردُّوا نصًّا صحيحًا؛ لأنه خالف العقل؛ وذلك لتحقق أمرين فيهم:

١- النقل الصحيح: فهم لا يبنون معتقدهم ودينهم إلا على الثابت من النُّقُول الصحيحة.

 

٢- العقل الصريح السليم من الآفات المضلَّة من شبهات وشهوات وأهواء، أو تعصُّب لآراء منحرفة، أو تأثُّر بلوثات فكرية أو كلامية أو فلسفية، ونحو ذلك.

 

لذلك كان السلف الصالح من القرون المفضلة أبْصَرَ الناسِ بمصادر التشريع وحقائقها، فهم المَعينُ الصافي، والنهر الجاري، ومنهج سلف الأمة، ومن أثنى عليهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهم أعلم وأتقى وأصدق، وأقرب الخلق إلى الوحْيَينِ، ومن سار على نهجهم من أئمة التحقيق، والعلماء الراسخين الذين أجمعت الأمة على إمامتهم، فنحن لا نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فماذا بعد قول الله ورسوله من دليل وحجه وبيان؟! إذًا من يتوهَّم وجود صراع بين العقل ومصادر التشريع الربانية حقيقته قصور عقله هو، وضعف إيمانه هو؛ لهذا المسلم يراجع إيمانه، ويرجع لربِّه، ويسأل الله الهداية والسداد قبل أن تزلَّ به القدم فيهلك، وكونك لم تقتنع بـ”قال الله” و”قال رسوله صلى الله عليه وسلم” هذا لا يخرجك من دائرة الحساب والمسؤولية أمام الله يوم القيامه.

 

فما هو الردُّ المقنع عندما تقف بين يدي الجبَّار جل جلاله، فأعِدَّ للسؤال جوابًا، وحذارِ أن يكون حالُك كالذي قال الله عنه: ﴿ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه: 126]، فكان الجزاء من جنس العمل يوم القيامة والعياذ بالله، فاللهم أَرِنا الحق حقًّا، وارزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعلنا يا ربَّنا ممن قلت فيهم: ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 104].

 

آمين آمين

وصلى الله وسلم على رسول الله.





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى