التاريخ الإسلامي

الخطاب الإعلامي والثقافة العصرية


الخطاب الإعلامي والثقافة العصرية

 

لا يمكن البتة لأي مجتمع في التاريخ البشري أن يستغني عن المادة الإعلامية؛ وإلا ظلَّ صوتُه مكتومًا، وفكرُه مطموسًا، فعمد كُلُّ مجتمع إلى توظيف الآليات التي تُمكِّنه من التعريف بمقوماته والتعبير عن ذاته إعلانًا عن وجوده الإنساني، فقد كانت الفلسفة والحكمة لسانًا ناطقًا بثقافة اليونان قبل الميلاد، وكان الشعر لسان العرب حتى عَدُّوه ديوانًا لهم، فقالوا: “الشعر ديوان العرب”، وكانت العمارة لسانًا ناطقًا بحضارة الرومان، وهكذا أوجدت كُلُّ حضارةٍ لها مادةً تُخبِر عنها وتُميِّزُها عن غيرها من حضارات الدنيا، فلما تطوَّرت التقنية، ودخل الإنسان غمار العلوم التجريبية، فانفتح الأفق أكثر فأكثر أمام العقل البشري ليُعلن ثورته المادية المتسارعة؛ مما جعل الحدود تتقارب بل وتنصهر في بوتقةٍ واحدةٍ تحت مُسمَّى “العولمة”، غدا العالمُ كلُّه يعيش وكأنه في بيت واحد، تتناقل فيه الأخبار والمعلومات تباعًا وكأنها موجاتٌ في بحر واحد تتوالى دون توقُّف، فكان لا بُدَّ للإعلام من تطوير نفسه ومواكبة هذا التحوُّل المتسارع الذي أحدثته الرقميات، فبعد أن ظلَّ الإنسان يتلقَّف المادة الإعلامية من المذياع والصُّحُف والمجلات في وقت سابق حان دور الإعلام السمعي البصري مجسدًا في التلفاز الذي دخل البيوت العربية منذ الثمانينيَّات بشكل خاص، لتعقبه ثورة الصحون الهوائية بعد عقد من الزمن فتصبح “موضة عصرية” لا غِنى للبيوت عنها، فإلى حدود هذه المرحلة من التاريخ ظلَّ الخطابُ الإعلاميُّ مُحمَّلًا بثقافة جادة، استهدفت المتلقي من شتَّى الفئات استهدافًا واعيًا مشحونًا برغبة أكيدة في صناعة جيل واعٍ يمتلك ثقافةً عربيةً وإسلاميةً، وقادرٍ على الإبداع والإنتاج؛ ذلك أن المادة الإعلامية امتازت برُوح التنوُّع ودقة المقصد والامتلاء الثقافي الغني، فالمتلقي يومها كان يجد نفسه أمام موادَّ تمتح من الفكر والعلم والثقافة بشتَّى تشكُّلاتها البنيوية المختلفة، فكان الثَّراء البنَّاء عنوانًا للخطاب الإعلامي، فالمتلقي الصغير كان يجد في المشاهدة إضافة إلى المتعة والترفيه مادةً ثقافيةً عبر برامج التثقيف والمعرفة والصقل اللغوي التي كانت تُقدِّمها المادة “الكرتونية” المنتقاة بعناية والمقدمة بلغة عربية وفرنسية سليمة يستضمرها الطفل يومًا بعد يوم لتغدو جزءًا من التلقي المعرفي ينضاف إلى ما تصنعه المدرسة، وتزيد المادة الوثائقية بكلا اللُّغتين شحذ الأذهان الصغيرة وصقلها مع ما تحمله من ثقافة واسعة تزيد المدارك انفتاحًا والخيال اتساعًا تنداح دوائره، وينهل منها الكبار كذلك الذين يجدون في المواد الإعلامية جاذبيةً تجعل الكُلَّ أمام رهبة التلفاز صامتًا وهو يتلقَّى مسلسلًا تاريخيًّا يحكي بطولات العرب في فخرٍ، أو يسرد هزائمهم في حسرة، يُوثِّق الأحداث ويستقرئ التاريخ ليضع الجيل الجديد أمام مرآة التاريخ، فينظر ما كان منه ليستفيد، ويأخذ العِبْرة من الأسلاف، أو يتلقَّى مسلسلات علماء المسلمين في حلقات عديدة تُخصِّص كلّ واحدة لعالم جِهْبِذ قدَّم عبقريته على طبق من ذهب للعالم كلِّه، فيبصر المتلقي صغيرًا كان أو كبيرًا ما صنعه علماؤنا الأفذاذ فيدهش لذلك ويقف وقفةَ الإجلال للعلم الذي يُملمِل في داخله شغَفَ المعرفة وعِشْقَ العلوم.

 

وتأتي المادة الدينية عبر أسئلة الإفتاء بحضور علماء كِبار يجيبون عن أسئلة الدين المشكلة على الأفهام، لحظتها يُطبِق الصَّمْتُ في كل البيوت، وتُرخَى الأسماع لالتقاط كل صغيرة وكبيرة ينطق بها العالم، فتعمُّ الفائدة في انتظار ما سيُسفر عنه لقاء آخر مع هذا العالم أو ذاك.

 

هذه جملةٌ قصيرةٌ من المواد الإعلامية التي عَنَّتْ بالذاكرة، قبل أن يغشى الصحن الهوائي العقول، ويطبق على الأجفان ليغمض العيون عن رؤية هذه المواد الراقية ذات النفع الكبير، لتبدأ قصة التحوُّل في خطابنا الإعلامي الذي دخل غمار المنافسة مع الكثير من القنوات الفضائية التي استجدت فسلبت منا تلك المنافع، الأمر الذي اضطر معه إعلامُنا إلى ركوب الموجة منساقًا وراء التغريب الجارف، فلم يكن له بُدٌّ سوى الخضوع لجلاله، والخنوع لسلطانه، فجارى سفاسفه، وحاكى تفاهته حتى سقط في فَخِّ العولمة من حيث يدري أو لا يدري، فبات منغمسًا في صناعة موادِّه متغافلًا عن المقصد النبيل من الإعلام، فملأ الفقرات بالمسلسلات المدبلجة، ينفق من أجل شرائها الأموال الباهظة مع ما تبثُّه من سموم قِيَميَّة خطيرة، ويُنشئ البرامج المسفة، فبهت وجه الفكر، وخَفَتْ ضوءُ الثثقيف بعد أن فطن إلى أن الجيل الجديد ما هو إلا صناعة جديدة مشحونة بفكر التغريب، لا يأخذ إلا بالقشور التي يهواها، أما اللُّبُّ فهو عنه بعيد، لا حظَّ له منه، بعد أن زادت العوالم الرقمية الطين بلة، وحملت هذا الجيل على نَبْذ المنافع وحُبِّ المضارِّ دون أن يعي أنه إلى المهالك أقربُ، يجد في عوالم الفيديو وفي المواقع المختلفة ذات الطابع الترفيهي لذَّةً لا تُقاوَم، وفي مواقع التثقيف والمعرفة يلفي ضيقًا، ويستشعر مَلَلًا كأن الأرض تضيق عليه بما رحُبت، ففرغت الأذهان إلا من التفاهة والفَسْل، وعرا الألسنةَ خَطَلٌ وعِيٌّ، فلا تكاد تجد الواحد منهم قادرًا على الاسترسال بكلام فصيح بأيٍّ لغة، ولا يكاد مَن تتوسَّم فيه خيرًا أن يخطَّ قلمُه نصًّا؛ بل فقرةً تتماسك أجزاؤها حتى يملأها لحنًا، هذا إن لم يعجز قلمُه عن الكتابة، إنه جيل المعرفة الجاهزة، لا جهد يبذله في سبيل التحصيل؛ لأن العالم الرقمي حقًّا قد أتى كالسيل العرم، فجرف معه العقول، وأخذ معه الأجساد، فلما كان الوضع على هاته الحال جرى الإعلام في نفس النَّسَق، كُلُّ همِّه أن ينافس ويسير وَفْق “موضة العصر الجديد” مُتجاهلًا القِيَم والأخلاق وصناعة الإنسان التي أُوكِلت إليه، من أجل تحصيل الأرباح وتحقيق مزيد من العائدات، فدَسَّ الوثائقيَّات والمسلسلات التاريخية والدينية والبرامج ذات الحمولات الثقافية والإبداعية في رفوفه، وجعلها جزءًا من التاريخ الإعلامي الذي كان مُشْرِقًا كُلَّ الإشراق، بخلاف ما نجده اليوم من ضعف ووهن سرى في الجسد الإعلامي المهترئ رغم الأقلام الناقدة التي حاولت أن ترُدَّه إلى جادة الصواب؛ إلا أنه سار ولا زال يسير في طريقه المتعنِّت للدرجة التي جعلت الرجل الذي لا يفقه شيئًا من أبجديات القراءة والكتابة يُعبِّر عن امتعاضه للمادة الإعلامية، ويُعلن عن سخطه مما يُقدَّم للمتلقي، فهو يدرك فقط بفراسته أن خطابنا الإعلامي سائرٌ نحو الحضيض إن لم نقل: إنه هاوٍ في الحضيض حقًّا.

 

قد يحتجُّ الإعلاميُّون اليوم بحاجة المتلقي إلى مثل هاته الموادِّ ذات الطابع الترفيهي، والمفرغة من أيِّ محتوى تثقيفي وتعليمي لميله النفسي نحوها؛ إذ إن تقديم خطابات معرفية وفكرية لن يحظى بنِسَب مشاهدة عالية، خاصة في ظل العالم الرقمي اللامتناهي، صحيح أن هذا الاحتجاج مقبولٌ في هذا السياق التاريخي؛ إلا أنه لا يُمثِّل ذريعةً أمام الرسالة الإعلامية الملزمة بالاجتهاد في إعادة البريق إلى المادة المقدَّمة، وتوجيه دفَّة هذا الجيل إلى بَرِّ الأمان؛ لذا فالخطابُ الإعلامي ملزمٌ بأداء دوره في إطار حلقات تتكامل، منطلقها البيت الصغير الذي يسهم في التكوين النفسي للطفل عبر توجيهه نحو الاختيارات الصائبة التي تعود عليه بالنفع؛ مما يجعلها جزءًا من ثقافته في مراحل لاحقة، ويأتي دور المدرسة في ترسيخ هذا التوجه عَبْر نَشْر القِيَم الأخلاقية والمعرفية البانية لجيلٍ قادرٍ على الإبداع، جيلٍ من شأنه أن يُفكِّر وينتقد ويمارس حقَّه في الانتقاء بوعي دون أن نغفل دور المجتمع المدني بهيآته المختلفة لنَشْر الوعي الجمعي بقيمة الفكر والثقافة والمعرفة ونبذ أشكال التفاهة والإسفاف التي تمارسها العوالم الرقمية والمادة الإعلامية، وتستطيع المؤسسة الدينية أن تزيد من تعزيز هذا الفكر الإيجابي منطلقة من الوحي بمضامينه القوية في هذا السياق، ومن التاريخ الإسلامي بما يحتويه من أمثلة داعمة للمشهد الفكري والثقافي الرائع، فعندما تتضافر كل هذه الحلقات ويُكمِل بعضُها بعضًا، حينها سينجح الإعلام في صناعة جيل قوي من الناحية الفكريَّة والمعرفية، جيلٍ يستطيع النهوض بأعباء الأمة، ويسير بها قدمًا نحو التقدَّم والازدهار؛ لأننا يومها سنكون قد صنعنا جيلًا حقيقيًّا يمتلك الحماس والقوة من أجل بناء الحضارة.

 

وبِناءً على هذا الطرح فإننا لا نُحمِّل الإعلامَ كُلَّ المسؤولية فيما وصلنا إليه؛ لأنه يحتاج إلى وسائل مساعدة تُعينه في مهمته؛ لكننا نُحمِّله مسؤولية البدء؛ لهذا فهو مطالَب بالعمل الجادِّ من منبره الخطابي القوي ذي التأثير الكبير على المجتمعات؛ إذ نراه بمثابة الضوء الأخضر يُعلِن الانطلاق تحقيقًا لما نصبو إليه، فهو الكفيل بجرِّ القاطرة، والقادر على قيادتها في الآن نفسه، فإذا فعل سنكون على موعدٍ كبيرٍ مع التاريخ، نُحيي فيه ما واريناه الثَّرى، فنبعث من المراقد كلَّ جميلٍ راقٍ فقدَتْهُ النفوسُ في زمن العولمة؛ لأن فطرة الإنسان دومًا تنزع نحو الجمال ونحو القِيَم النبيلة، فلا بُدَّ أنها ستنبذ التفاهة، وتطمس كل مصادرها، ولسنا ندَّعي هنا سهولة الأمر على الإطلاق فهو محتاج إلى جهد وصفاء نيَّة وصدق سريرة، وتضافُر حقيقي وفعَّال لكل الحلقات التي ذكرنا؛ لكن الغلال ستُجْنى بعد عقد أو عقدين على الأكثر تبعًا لدرجات الاجتهاد، وسنعود بالخطاب الإعلامي إلى الواجهة ليعبر بصدق دون أن يمارس لغة الإخفاء، ويغدو وسيلةً حقيقيةً من وسائل التثقيف والتحفيز على الإبداع والتفكير والنقد؛ لا وسيلةً للترفيه وملء وقت الفراغ وقَتْل المَلَكات وبث القيم المشوَّهة، إعلام قادر على مسايرة العصر الجديد بكل تحدياته وصناعة ثقافة جديدة مواكبة للتحوُّلات الجذرية التي تقع في المجتمع، لا ينأى فيها عن العوالم الرقمية بما تحمله من صور إيجابية، وفي نفس الوقت لا ينجرُّ وراءها، فيظل مُتمسِّكًا بالريادة لا ينساق وراءها محققًا لنفسه توازنًا ديناميًّا كفيلًا يمنحه القدرة على إنجاز مشروعاته وتحقيق طموحاته.





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى