تأملات (١٧): الحُبُك (النسيج الكوني) لقد أمرنا الله بتلاوة آياته وتدبرها؛ الآيات القرآنية؛ فقال سبحانه: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]. والمقصود بالتدبُّر كما قال الطاهر بن عاشور عند تفسيره لهذه الآية: "تحدَّى الله تعالى هؤلاء بمعاني القرآن، كما تحداهم بألفاظه"[1]. فتدبر القرآن يكون في مقاصده، وفي دلالة آياته ومعانيها، فالتحدي قائم في نَظْمِهِ وترابطه، وما تحمله تلك الألفاظ من معانٍ؛ ولهذا قال أبو سليمان الخطابي المتوفى سنة ٣٨٨: "وإنما تعذَّر على البشر الإتيان بمثله لأمور؛ منها أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية، وبأوضاعها التي هي ظروف المعاني، والحوامل لها". ثم علَّل ذلك مبينًا أن الكلام لا يقوم إلا بأمور ثلاثة؛ فقال: "لفظ حامل، ومعنًى به قائم، ورباط لهما ناظم، وإذا تأملت القرآن وجدتَ هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئًا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه"[2]. والقصد من كلامه بيانُ أن ألفاظ القرآن تحمل معانيَ كثيرة، ومعانيها لا تتناقض ولا تنتهي؛ فهي متجددة، وهناك ترابط بين اللفظ والمعنى؛ بحيث إذا أخذت أحد الألفاظ من مكانه، فلا تجد لفظًا يقوم مقامه، ويصلح ليحل محله، كما عبَّر عن ذلك بعض البلاغيين. مثل: الثوب المحبوك (المنسوج)، خيوطه مترابطة ومحكمة، ومتقنة النسج غير مختلة؛ وقد أشار سبحانه وتعالى إلى هذا المعنى وهو يصف كتابه فقال: ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود: 1]. قال الطاهر بن عاشور عليه رحمة الله: "والإحكام: إتقان الصنع، مشتق من الحِكْمة بكسر الحاء وسكون الكاف؛ وهي إتقان الأشياء بحيث تكون سالمة من الأخلال التي تعرِض لنوعها؛ أي جُعلت آياته كاملة في نوع الكلام بحيث سلمت من مخالفة الواقع، ومن أخلال المعنى واللفظ"[3]. وهنا نقف عند الآية السابعة من سورة الذاريات؛ وهي قوله تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ﴾ [الذاريات: 7]، لنتأمل هذا اللفظ فيما يحمله من معانٍ دقيقة، وتصوير بليغ. فما هو الحبك؟! قال الطاهر بن عاشور عند تفسيرها: "والحُبُك: بضمتين جمع حِباك؛ ككِتاب وكُتُب، ومِثال ومُثُل، أو جمع حبيكة؛ مثل طريقة وطُرُق، وهي مشتقة من الحَبْك بفتح فسكون؛ وهو إجادة النسج، وإتقان الصنع. فيجوز أن يكون المراد بحُبُك السماء نجومها؛ لأنها تشبه الطرائق الموشاة في الثوب المحبوك المتقن. ورُوي عن الحسن وسعيد بن جبير، وقيل الحبك: طرائق المجرة التي تبدو ليلًا في قبة الجو. وقيل: طرائق السحاب، وفُسِّر الحبك بإتقان الخَلْقِ؛ رُوي عن ابن عباس وعكرمة وقتادة[4]. وخلاصة ما ذكره أن لها معانيَ؛ منها: النسيج المتقن والمحكم، أو الطرائق. وهذان المعنيان هما اللذان حُمل معنى لفظة (حبك) عليهما. وقد استوعب القرطبي عليه رحمة الله في تفسيره الأقوال فيها، وذكر قولًا عن الضحاك، ونسبه أيضًا للفرَّاء، فيه زيادة معنى، قال: "الرابع: قال الضحاك: ذات الطرائق؛ يقال لما تراه في الماء والرمل إذا أصابته الريح حُبُك، ونحوه قول الفراء، قال: الحُبُك تكسر كل شيء؛ كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة، والماء القائم إذا مرت به الريح، ودرع الحديد لها حبك، والشعرة الجعدة تكسرها حبك، وفي حديث الدجال: ((أن شعره حُبُك))؛ قال زهير: مكلَّل بأصول النجم تنسجُهُ ريح خريق لضاحي مائه حُبُكُ ولكنها تبعد من العباد فلا يرونها"[5]. وسوف أضع صورًا لتكسُّر الرمل والماء لتوضِّح هذا المعنى، وما فيهما من تشابه مع الصور التي نراها لشكل المجرات. ولفظة (الحبك) تستعمل في كثير من الكلام بنفس المعنى السابق؛ كما في القاموس: "حبك الحبل: فتله فتلًا شديدًا، حبك الشيء: شدَّه وأحكمه، عمل محبوك: متقَن، حبك المؤامرة: أحكم خطتها، حبك الشيء: أحكمه، حبك الثوب: أجاد نسجه، حبك القصة: أجاد صياغتها، حبك العقدة: قوى عقدها ووثَّقها، حبك الأمر: أحسن تدبيره"[6]. وكلها لا تخرج عن معنى الإتقان والإحكام والجودة والتقوية. ولتقريب المعنى للقارئ الكريم سأضع صورًا لبعض الأدوات والأشياء التي تُحبك؛ ليشاهد بعينه الإتقان والإبداع في (الحبك) بصورة مصغرة، لينتقل القارئ، ويرفع رأسه باتجاه السماء، وينظر إليها بعينه التي في رأسه، ومن خلال التلسكوبات الحديثة، ليرى الإتقان والإحكام، والجودة والنسج، والترابط والمسافات المضبوطة، مع كثرة النجوم والكواكب والمجرات، والحركة المستمرة والدوران، ولكن كل يعرف طريقه ومهمته، وليس هناك اختلال في هذا النسيج ولا فساد ولا بطلان؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾ [ص: 27]. وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 5]. وقال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴾ [الروم: 8]. فخَلْقُ السماوات والأرض لم يكن عبثًا، ولا باطلًا، بل فيهما الحكمة والعِبرة البالغة. دعونا ننتقل إلى ما توصل إليه العلماء بعد استكشافهم لهذا الخلق العظيم فيما يتعلق بالسماء من نجوم، ومجرات، واتساع، ودوران، ودخان، وأبراج ... وغيرها. توصلوا إلى أن الكون كالنسيج وسموه "بالنسيج الكوني"، وسبحان الله كيف دلهم على التسمية التي في القرآن ونطقوا بها! ذات الحبك: ذات النسج المتقن المحكم. فما هو تعريف "النسيج الكوني" عند علماء الفضاء؟ النسيج الكوني هو: تلك الشبكة غير المرئية أو الهيكل غير المرئي الذي يربط مكونات الفضاء والكون بعضها ببعض من نجوم، ومجرات، وغازات كونية؛ بحيث لا يكون توزعها عشوائيًّا في الكون، ويتكون من أنسجة أو خيوط كونية متداخلة من التجمعات النجمية والغازات الممتدة عبر الكون يفصل بعضها عن بعض فراغات عملاقة، بتجانُسٍ مذهل، وعظمة مطلقة[7]. ومما وجدت في هذا الموضوع من الأبحاث القيِّمة والرصينة والمؤصلة بحثُ الدكتور عبدالدائم الكحيل، فقد ذكر فيه سبب التسمية بهذا الاسم، ومعناها، وأكبر عملية حاسوبية قاموا بها في هذا الشأن؛ قائلًا: أضخم عملية حاسوبية على الإطلاق. لقد قام بعض العلماء من بريطانيا وألمانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية منذ فترة قريبة بأضخم عملية حاسوبية لرسم صورة مصغرة للكون، وتم إدخال عشرة آلاف مليون معلومة في السوبر كمبيوتر، حول عدد ضخم من المجرات يزيد على 20 مليون مجرة، وعلى الرغم من السرعة الفائقة لهذا الجهاز، فإنه بقي يعمل في معالجة هذه البيانات مدة 28 يومًا حتى تمكَّن من رسم صورة مصغرة للكون. لقد تم إدخال معلومات عن توسُّع الكون، وعن سلوك النجوم والتجمعات المجرية، وعن المادة المظلمة في الكون، وكذلك تم إدخال معلومات عن الغاز والغبار الكوني؛ بهدف تقليد الكون في توسعه، وتحديد الطرق التي تسلكها المجرات والنجوم، وقد قال البروفسور Carlos Frenk من جامعة درهام ببريطانيا، ومدير هذا البرنامج: "إنه أعظم شيء قمنا به حتى الآن، ربما يكون الأكبر على الإطلاق في الفيزياء الحاسوبية، إننا وللمرة الأولى نملك نسخة طبق الأصل عن الكون، والتي تبدو تمامًا كالكون الحقيقي، ولذلك يمكننا وللمرة الأولى أن نبدأ التجارب على الكون". وهذا تصريح من عالم ومكتشف كبير بأنها المرة الأولى في التاريخ التي يستطيع فيها العلماء رؤية حقائق يقينية عن شكل الكون، وتوزع المجرات فيه، وقد كانت الصورة التي رسمها الكمبيوتر للكون تشبه إلى حد كبير نسيج العنكبوت، ولذلك فقد أطلق عليها العلماء مصطلح "النسيج الكوني"[8]. الذي يهمنا في هذا هو قولهم: "النسيج الكوني" التي لا تختلف عن "الحبك"، وسواء قلت: نسيج العنكبوت، أو نسيج الثوب، أو نسيج الكون، فكلها تدل على الحباكة والحبك. فهل أدركت - أخي القارئ - ما الذي نقصده عندما نقول: على وكالات الفضاء العالمية أن تسترشد بالقرآن الكريم في اختيارات التسميات لِما يكتشفوه؛ فالقرآن قد سبقهم، وسمَّى الأشياء بمسمياتها، وليس هناك تسمية أحسن من تسمية الشيء من قِبل موجِدِه وخالقه؟ أليست الشركات هي التي تسمي منتجاتها بالأسماء التي تريدها؟! فهذا الكون الفسيح له خالق ونحن وأنتم وكل من حولنا خلق من خلقه، ومن خلال آياته المقروءة والمشاهَدة يدلنا على ذاته العلية، ويسمي لنا آياته الكونية. فنقول للذين يبحثون عن الحقائق العلمية: إن القرآن هو أصل الحقيقة. وجه الإعجاز في الآية: تطابق التسمية العلمية (النسيج الكوني) للوصف القرآني (الحبك) فيما دل عليه، وكأن الله تعالى أجرى ذلك على ألسنتهم؛ ليعلموا صدق ما أخبر به القرآن، مع العلم أن هذه التسميات لا تصدر إلا عن مؤسسة مختصة بذلك، وبضوابط محددة، ولم تصدر عفوية ومن غير دراسة، والله أعلم. [1] التحرير والتنوير، سورة النساء آية: 82، ص137، المكتبة الشاملة. [2] كتاب إعجاز القرآن للباقلاني، ص15، فصل في أن نبوة النبي معجزتها القرآن، المكتبة الشاملة. [3] التحرير والتنوير، ص314، سورة هود آية 1، المكتبة الشاملة الحديثة. [4] التحرير والتنوير، ص341، سورة الذاريات، المكتبة الشاملة الحديثة. [5] تفسير القرطبي، ص31، سورة الذاريات، المكتبة الشاملة الحديثة. [6] انظر: تعريف ومعنى حبك في معجم المعاني الجامع، معجم عربي. [7] ^ أ ب Matt Davis (18/6/2019), "?What is the cosmic web", Big Think, Retrieved 30/1/2022. Edited [8] N Katherine Hayles, Cosmic Web, Cornell University Press, 1984. (function (i, s, o, g, r, a, m) { i['GoogleAnalyticsObject'] = r; i[r] = i[r] || function () { (i[r].q = i[r].q || []).push(arguments) }, i[r].l = 1 * new Date(); a = s.createElement(o), m = s.getElementsByTagName(o)[0]; a.async = 1; a.src = g; m.parentNode.insertBefore(a, m) })(window, document, 'script', '//www.google-analytics.com/analytics.js', 'ga'); ga('create', 'UA-1391140-2', 'alukah.net'); ga('send', 'pageview'); // Script For facebook panle add by Dev in 22/9/2013 /* Commented by Dayem at 16-05-2021 */ (function (d, s, id) { var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0]; if (d.getElementById(id)) return; js = d.createElement(s); js.id = id; js.src = "//connect.facebook.net/en_US/all.js#xfbml=1"; fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs); }(document, 'script', 'facebook-jssdk')); /* $(function(){ if (window.location.pathname == "http://www.alukah.net/") { $('#Adv_Widget').hide(); } else { $('#Adv_Widget').show(); } }); */ المصدر