في رثاء شيخ ليستر آدم بن يوسف لونت المانكبوري (1356-1445)

بقلم: محمد زياد بن عمر التُّكْلَة
وُلد رحمه الله 26 شعبان سنة 1356 (يوافقه 31 أكتوبر 1937) في مانِكْبور من مضافات سُورَت، بولاية كُجْرات غربي الهند، في أسرة دين وصلاح، وكان والده مزارعًا، وتوفي ليلة 27 رمضان، وتوفيت والدته وهو ابن 11 سنة. حفظ القرآن مبكِّرًا، ودَرَس أولًا في جامعة دابهيل الإسلامية، ومدرسة في رانْدير، ثم انتقل إلى دار العلوم ديوبند، وتخرَّج منها وعمره 22 سنة، وكان أخبرني أنه أخذ دورة الحديث في الدفعة التالية لوفاة الشيخ حسين أحمد المدني [ت1377]، وقد لقيه، ولكن لم يدرس عليه الحديث، وأخذ البخاري على خَلَفه شيخ الحَديث فخر الدين أحمد المُراد أبادي [ت1392، وهو أخذه على محمود حسن الديوبندي ت1339]، وأخذ مسلمًا على محمد إبراهيم البَلْياوي [ت1387، وهو أَخَذه على محمد حسن، أخي محمود حسن]، وسمع الأولية، والموطأين، والمسلسل بالضيافة على الأسودين: على القارئ محمد طيّب القاسمي، حفيد محمد قاسم النانوتوي [ت1403، وهو أخذ الموطأين على عَزيز الرحمن العثماني ت1347، والمسلسلين على خليل أحمد السهارنفوري ت1346]، وأخذ عن غيرهم، هذا ما كان أخبرنا به شيخنا الفقيد -ومعه ابنه الشيخ المفتي محمد الكوثري- في مسجده من مسموعاته.
وأفاد عنه صاحبنا الشيخ المفيد عمر حبيب الله في موسوعته القيِّمة: «الإجازات الهندية وتراجم علمائها» (ص4046 -4047) أنه أخذ أيضًا سنن الترمذي على البَلْياوي، وأخذ سنن أبي داود والشمائل وتفسير البَيْضاوي على فخر الحسن العُمروهي المراد أبادي [ت1400، وهو أخذ سنن أبي داود على البَلْياوي، والشمائل على إعزاز علي ت1374]، وأخذ النَّسائي على بَشير أحمد خان البَلَنْدشَهْري [ت1386، وهو تلميذ أنور شاه الكَشْميري]، وأخذ تفسير الجلالَين على أخي سابقه مجيزنا نَصير أحمد خان البلندشهري [ت1431]، في آخرين. وسقتُ أسانيد غالب شيوخه في رسالتي: «التلخيصات الوفيَّة لـمَدَار مسموعات مشايخ بريطانيا من الهنود الحنفيّة»، ولعلها تكون الآن خرجت من الطباعة.
ورأيتُ في مقال رثائه لابنه الشيخ المفتي محمد الكوثري أن تخرُّج والده الفقيد من ديوبند كان سنة 1961م (وتوافق سنة 1380)، وأنه لقي بعض المشايخ الأكابر وأفاد منهم، مثل المفتي محمد شَفيع العُثماني، ومحمد زكريا الكانْدِهلَوي. وأخذ التزكية عن وصي الله الإله أبادي -من كبار أصحاب أشرف علي التَّهَانَوي- وأفاد لاحقًا من إنعام الحسن الكانْدِهلَوي، والمفتي محمود حسن الكَنْكُوهي، وأجاز له أخيرًا الشيخ يوسف مُطَارة في السُّلُوك. وأفاد أن من زملائه في الدراسة الشيخان المفتي سعيد البالنبوري، وأرشد بن حسين أحمد المدني.
وبعد تخرُّجه بثلاث سنوات تولى تدريس اللغة الفارسية في جامعة دابهيل الإسلامية في كُجْرات، ثم درّس فيها شرح العقائد، ونور الأنوار، ورأيتُ في تاريخ جامعة دابهيل (ص199 و201) أنه تولى تدريس العربية فيها سنتَي 1387 و1388.
بعدها استدُعي شيخنا إلى مالاوي في أفريقيا، حيث أنشأ مدرسة وكُتّابًا، فعمل إمامًا ومدرّسًا ومرشدًا مدة سبع سنوات، وانتفعت به الجالية المسلمة هناك، ولا سيما ذوو الأصول الهندية.
ثم انتقل إلى مدينة لِيسْتَر في بريطانيا في ذي القعدة سنة 1395 (يوافقه نوفمبر سنة 1975م) وحطّ رحاله فيها، ليبقى فيها نصف قرن، أقام بها نهضة علمية ودعوية، وخَدَم المجتمع المسلم خدمات كبيرة، هو ومن جاء بعده من المشايخ، حتى أضحت ليستر من كبريات مراكز المسلمين في الغرب.
تعيَّن أول وصوله إمامًا لمسجد النور في حي هايفيلدز، وبعد سنتَين أسَّس في الحي المسجد الجامع في ليستر، مع مدرسة تابعة له، ومرافق تخدم المسلمين، وسعى له بالدعم والتوسعة، فصار من بضعة عشر سنة من أجمل مساجد بريطانيا وأوسعها وأنشطها، ويتسع لأكثر من ثلاثة آلاف مصلّ. وأما لنفسه وأسرته: فقد قنع بمنزل متواضعٍ بسيط أمام المسجد، بقي فيه إلى آخر حياته.
وأسَّس مدرسة وكتّابًا أسماه جامعة علوم القرآن، ، وبدأ باثني عشر طالبًا، ثم وصل طلّابها في بعض السنوات إلى 1500 طالب، وربما دَرَس القرآن في الكُتّاب ثلاثة أجيال من نفس الأسرة، فأفاد منها كثيرون جدًّا. وأنشأ مسار الدراسة النِّظامية العالمية من نحو عشرين سنة، وكان شيخ الحديث فيها، وقام بتدريس صحيح البخاري، وتخرَّج المئات عنده. واشتهر بدرس التفسير الأسبوعي، وأكمل التفسير في عشرين سنة. ومع الدعوة والإرشاد تأثرت المنطقة كلّها، وصار الحي حوالي المسجد بيئة إسلامية ملتزمة، الرجال باللِّحى والسَّمت الإسلامي، والنساء بالحجاب السابغ. وساهم في الدعوة والإرشاد والكلمات في مناطق عدة.
وكان له إشراف ورعاية لعدة مؤسسات ومناشط شرعية وعلميّة، مثل أكاديمية ليستر الإسلامية، وأكاديمة الجامعة للبنين، وللبنات، واتحاد مدارس مَدَني للبنين والبنات، ومعهد الإمام محمد آدم، ومدرسة أبي هريرة، وخانقاه محمد زكريا. وربّى أجيالًا من أهل العلم والفضل والدعوة كما تقدّم، منهم أبناؤه الكرام الشيخ محمد عمران، والشيخ أحمد علي، والعالم المفتي محمد الكوثري، ولجميعهم جهود في التعليم والدعوة، وابنتاه ساجدة، وزاهدة، وهما عالمتان تدرّسان القرآن والحديث والعلوم الشرعية -وإحداهما تدرّس البخاري بسماعها على أبيها- وأحفاده الذي يكثر فيهم حفظ القرآن وطلب العلم، بل وزوجه المصون رفيقة دربه ودعوته، وهي من الفضلَيات الخيِّرات، وكانت فيما يُذكر أول من أشاع الحجاب السابغ والنقاب في ليستر -حتى اختلستْ لها جريدة ليستَر ميرْكوري قديمًا صورة تعجبًا واستغرابًا- ثم أشاعتْ ذلك بين المسلمات. نعم؛ وأفاد منه الخاص والعام في لِيْسَتر وغيرها لطبقات، وله المقام الكبير في نفوس عامّة مسلميها، ويعتبرونه شيخ البلد الأول، بل كان من صدور أكابر مشايخ بريطانيا كلها من ذوي الأثر العام، مع أمثال الشيخين الحافظ محمد بَتيل، ويوسف مُطَارة (مُتَالا)، رحم الله الجميع.
ولجهوده البارزة في ليستر فقد أسمَتْ البلدية من مدة ساحةً قرب مسجد الشيخ باسم «ميدان الشيخ آدم».
ذَكَر ابنُه عنه في مقال رثائه الالتزام التام، والزهد في الدنيا، إلى درجة عدم معرفته بالأجهزة الحديثة، وعدم إدخاله التلفاز (الرائي) للبيت، وتديُّنه في منع التصوير، وقناعته بمرتّبه ومسكنه البسيط، وانجماعه على نفسه ما بين المسجد والبيت، واحتسابه خدمة المسلمين لعقود، وقيامه وَحْدَه بالإمامة والأذان أول تأسيسه للجامع، مع حرصه التام على القيم والآداب. وذَكَر كثرة عبادته في البيت وقراءته للقرآن، وكثرة ذكره، ولا يذكر أنه فاتته صلاةٌ في المسجد إلى أن اشتدّ مرضُه، بل لا تكاد تفوته تكبيرة الإحرام خلف الإمام. وذكر أخبارًا عديدة في ورعه وتقواه، وأموره الأسرية التربوية والحانية، ولعله يتيسَّر له الإضافة عليه وتعريبُه ونشرُه في كتاب، فهو أولى الناس بذلك.
وأما أخذي عنه:
فقد كنتُ أسلِّم على الشيخ غالبًا عندما أصلّي في مسجده، وهو في سَمْتِه المهيب، بثيابه البيض وعمامته ولحيته المخضوبة، وابتسامته المحبَّبة، واستجزتُ منه مرّات، ولستُ أنسى استنارة وجهه وسروره -رحمه الله- عندما رأى طالبَ علمٍ عَرَبيٍّ يسألُه عن شيوخه ويعرف أساميهم، وحدَّثني في مسجده العامر بعد مغرب الأحد أول ذي القعدة 1436 بحديث الرحمة المسلسل بالأولية، وقرأتُ عليه أول صحيح البخاري، وحضرتُ درسًا له بالأُرْدِيَّة، كان معي صاحبي العزيز الشيخ سليمان دادِه والَه، واستجزتُ منه لكلينا ولأولادنا. ثم يسّر الله أن رتّبنا لمجلسٍ حافلٍ في مسجده يوم الأربعاء 25 ذي القَعْدَة سنة 1439، حَضَره جملة من المشايخ وطلبة العلم في ليسْتَر، وحَضَره من قَطَر الأخ الشيخ خالد بن محمد آل ثاني، وسمعه جملةٌ من أكابر الأصحاب عبر الاتصال -مثل المشايخ أحمد بن عبد الملك عاشور، ومحمد سعيد مِنْقارة، وجمعة الأشرم، وحمد المَرّي، وصُهيب الـمَرْزوقي، ومحمد الشَعّار، وغيرهم- حدَّث فيه بالأولية، وقرأتُ عليه قطعةً صالحةً من أول الموطأ رواية الإمام محمد بن الحسن الشَّيْباني (53 حديثًا من طبعة عبد الوهاب عبد اللطيف)، وأوائل الكتب السبعة (وحاولتُ مرّاتٍ بعدُ إكمال الموطأ حضورًا أو بالهاتف وما تيسَّر ذلك، والحمدُ لله على ما رَزَق). ومنه أنه كَتَب الإجازة بخطِّه الشريف على استدعائي ليلة الأربعاء الخامس من شعبان سنة 1438، وقرأتُ عليه يومها في غرفته خلف محراب مسجده: أول صحيح البخاري وأول ثلاثياته. وأجاز أيضًا على استدعاء للأخ الشيخ عمر حبيب الله، وأخذ عنه السَّنَد عددٌ كبير في ليسْتَر، وبقية بريطانيا، وفي رحلاته، ولا سيما في الحرمَيْن، والهند، ولقيه عددٌ من أصحابنا الرحّالة والمعتنين من العرب وغيرهم.
بقي الشيخ على حاله من الخير والسَّدَاد والتصوُّن والانجماع، إلى أن هَرِمَ وضعُف جسمُه وقلّت حركتُه، ثم أصيب بجُلْطَة دماغية في رجب سنة 1444 (يوافقها فبراير 2023) وصار طريح الفراش، في صبرٍ واحتساب، ثم سافر أخيرًا إلى الهند مع زوجه وابنه الأكبر، ومرض هناك، وأُدخل المستشفى، وتَسَامَع الناسُ بأخباره وتناقَلوها واهتمُّوا لها، وبعد خروجه بأيامٍ سافر إلى المدينة وهو متعَب، وكان متأثرًا في زيارته كأنه يشعُر بالوداع، واجتمعتْ أسرتُه هناك، وعادوا إلى ليستَر، وأُدخل المستشفى مجدَّدًا، والناسُ في ترقُّب ومتابعة لأخباره أكثر من ذي قبل؛ لمحبّته وأَثَره فيهم وَصِيْتِه، وما إن خرج واستقرَّ في بيته بيسير حتى أصيبَ بجُلْطَة شديدة، ودخل في غيبوبة لأيام، وانتقل بعدها إلى رحمة الله.
وكنتُ أحدُ من يتتبَّع أخبار تطوُّر حالته أيامه الأخيرة، خاصّةً لَـمّا دَخَلَ في غيبوبته الأخيرة، وكان عندي سَفَرٌ لمجلس الموطَّأ في بَيْرُوت، وخشيتُ إن قدّر الله وَفَاتَه أن يفوتَني واجبُ حضور جنازته، لما له من حقِّ المشيخة الخاص، ولحقِّه العامِّ؛ فهو صاحب قَدَمِ في خدمة الإسلام والمسلمين في البلاد، وكنتُ بمعيّة شيخنا الجليل محمد أيوب السُّوْرَتي نزيل ليستَر هناك في بيروت نتابع أخباره، وعُدنا يوم الثلاثاء إلى إنجلترا، ثم وصلنا خَبَرُ وفاته وانتقاله إلى رحمة الله بعد أقل من يومين، الساعة 6:45 بُعيد فجر الخميس 26 شعبان سنة 1445 (يوافقها 7 مارس 2024م)، وقد أتمّ تسعًا وثمانين سنةً بالضبط.
وما أن سُمع بالخَبَر حتى تناقَلَه الناس بوسائل التواصل وغيرها، وكان الوقع أليمًا، وسَمَحَتْ أسرتُه للناس بزيارته للتوديع في الليل، كما كانت سَمَحَتْ بذلك في غيبوبته، فتوافد كثير جدًّا من خاصة المسلمين وعامتهم، مشايخ وطلبة وعوامّ، كلهم يريد توديع شيخ البلد، الذي خدَمَهم لأجيال، وعرفوا خدماته وصلاحه وزهده، وتناقل الناس صور طابور المنتظرين للدخول عليه وكان ممتدا لمسافة طويلة.
وأُعلن أن الجنازة موعدها ضحى اليوم التالي، فتوافد الناس من خارج ليستر، وأنا منهم، وأما من مدينة ليستر فتقاطر الآلاف؛ رغم عائق الدوام للوظائف والمدارس، وتعاونت البلدية والشرطة في ترتيبات الجنازة التي يعلمون مسبقًا ضخامتها، وتمَّ الإعلان عن تنظيم أماكن وقوف السيارات والترتيبات، وصُلِّي عليه في حديقة سبيني هيلز الكبيرة، غير بعيد عن مسجد شيخنا الفقيد، فمن المقدَّر مسبَقًا أنه لن يتسع للجنازة أيُّ مسجد، وجاءتْ الناس بكافَّة طبقاتها، وكانت من أكبر الجنائز التي حضرتُها أو بَلَغني خَبَرُها في بريطانيا، وكان الناس يعزّي بعضهم بعضًا، فما كان الفقيد فقيد أهله وحَسْب! ثم حُملت الجنازة إلى المقبرة، تتقدمها أسرتُه العلمية، والعلماء، وطلبة العلم، وأتأسّف أنه ما تيسَّر لي المتابعةُ إلى الدَّفن لمشقَّةِ الـمَشْيِ في حالتي الصحيّة، وبُعْدِ مواقف السيارات، واحتياجي إلى العودة إلى مدينتي لإدراك أداء خطبة الجمعة، والحمد لله على كلِّ حال. لكن كانت جنازة لا أنساها، وتم تأخير الجنازة شيئًا عن موعدها مراعاة لاستمرار توافد الناس، وبقيتْ الناس تتقاطر رغم بُعد مواقف السيارات وازدحام الطُّرق والبَرْد إلى ما بعد الفراغ من الصلاة، وقَدَّرْتُ الصفوف التي إلى نحو الأربعين صفًّا وزيادة بعرض الحديقة الكبيرة، والمصلّون ببضعة عشر ألفًا، وهو رقم كبير على مستوى مسلمي بريطانيا، ولم أشهد فيها جنازةً تضاهيها إلا جنازة الحافظ محمد بَتيل رحمه الله (وكنت كتبتُ عنها هنا:
https://www.alukah.net/world_muslims/0/99202)
وأخبرني أحد من حضر الدفن أن من وصل المقبرة يُقَدَّر بأكثر من ثلاثة آلاف، ونَشَرَتْ أخبار جنازته وسائلُ الإعلام المحليّة، فإنّا لله وإنا إليه راجعون.
* أسأل الله أن يتغمَّد شيخنا بواسع عفوه ورحمته، وأن يرفع درجاته، ويحسن عزاء أبنائه الكرام، وأسرته الكريمة، وسائر ذويه ومحبّيه، بل ومسلمي لِيسْتَر وبريطانيا، وأخلف الله علينا وعليهم من أمثال هؤلاء الرُّوّاد ممن خَدَم طويلًا الخدمات الجليلة، ومهّد الأمور لـمَنْ بَعْدَهم ووطَّأها، ونَشَر الخير والديانة والالتزام في محيط غربة الدين والأخلاق، فالله يجزل لهم الجزاء في الدارين، ويؤتيهم أجورهم مرَّتين.
وقد كُتب عنه -قبل الجنازة وبعدها- عدة كتابات بالإنجليزية والعربية والأردية، منهم لابنه المفتي محمد الكوثري، وللشيخ الحبيب هيثم الحَدّاد مع الشيخ شهير شودري، وللشيخ دين محمد، وأفدتُ منهم، جزاهم الله خيرا، وأردتُ أن أشركهم في أداء بعض الحق، ونَشْرِ بعض سيرته عند العرب وسواهم.
وآخر دعوانا أن الحمد له رب العالمين، وصلى الله وسلّم على محمد وآله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.