الجامع في بواعث إعجاب الكفار بالإسلام (2)
الجامع في بواعث إعجاب الكفار بالإسلام (2)
فمع تلك الضوابط السَّالفة الذِّكر لا يبقى حرَج في تناقُل شهادات الكُفَّار الإعجابيَّة بالإسلام ونبيِّه -صلى الله عليه وسلم- وثقافته وحضارته، واستغلاله، سواء في مَعرِض الدَّعوة إليه، أو في خِضَمِّ الصِّراعات الفكرية بينه وبين خصومه.
لكنَّنا كثيرًا ما نغفل ما تَحْمِل تلك الشهاداتُ مِن مَحاسن ديننا الَّتي رُبَّما أَلِفْناها نحن وانتبَه إليها الشاهدون من غيرنا، تلك المحاسن التي كانت ولا تزال محلَّ إعجاب كثيرٍ من الكُفَّار، فمِنْهم من أسلم بسببها، ومنهم من اكتفى بشهادته للإسلام.
وتلك محاولة منِّي لتقصِّي بواعث إعجاب الكُفَّار بالإسلام، أستَقِيها من مَجْموع شهادتهم أنفسهم للإسلام، والمتأمِّل لتلك الشهادات يَجِدُها لا تخرج عن ثلاثة مَحاور:
المِحور الأول: الثَّناء على طبيعة الدِّين الإسلامي.
المحور الثاني: الثناء على نبيِّ الإسلام – صلَّى الله عليه وسلَّم.
المحور الثالث: الثناء على تاريخ الإسلام وحضارته ورجاله.
وبين المَحاور الثلاثة ارتباطٌ وثيق، فالإسلام – الذي هو عقيدة وشريعة – جاء ليكونَ كيانًا ضخمًا يحتوي الواقع، هذا الكيان يتمثل أوَّلَ ما يتمثَّل في شَخْص النبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ولما سُئِلت عائشة – رضي الله عنها – عن خلُقِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: “كان خلقُه القرآن”؛ أخرجه مسلم وغيره.
ثم إنَّ المؤمنين إنَّما يتأسَّوْن برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيتمثَّل فيهم كذلك الإسلامُ، فيصنعون تاريخًا إسلاميًّا، ويبنون حضارة إسلامية.
شهادات إعجاب بالدِّين الإسلامي؛ عقيدةً وشريعة، وبنبِيِّ الإسلام، وحضارته وتاريخه:
عقيدة واضحة:
إنَّ أوَّل ما يأخذ بِلُبِّ الناظر في العقيدة الإسلامية وضوحُ مَعالِمِها، ويُسْر تعاليمها؛ بِحَيث يفهمها العاميُّ البسيط، كما يَفْهمها المثقَّف المطَّلِع الرَّشيد، إنَّها عقيدة بلا أسرار مُعَقَّدة أو ألغاز مُحيِّرة، فلا تَحْوي تناقُضًا، أو تجمع بين ضدَّيْنِ.
إن الإعجاب الشديد بوضوح العقيدة الإسلاميَّة نابعٌ من التَّعقيد الشديد لجوانب العقيدة في اليهوديَّة والنَّصرانية وكلِّ دين مُحرَّف، وبِهذا انتفض المفكِّرون والعلماء المُنْصِفون شاهدين للعقيدة الإسلامية باليُسْر والوضوح وكمال البيان.
دين عقلي:
دين عقلي لا يأتي بالْمُحالات، ولا يتقوَّى بالأساطير والأوهام، يُخاطب العقل ويُقارعه الْحُججَ والبراهين، فيسلِّم له العقل ويرضى بقيادته له.
تلك حقيقة شهد بها الأعداء وأعجبوا لَها، فلا يزال عباقرةٌ وفلاسفة كِبار يَنْقادون طوعًا، ويُسلمون حبًّا لإذعان عقولِهم الصحيحة للحُجَّة في الإسلام.
جامعيَّة التصوُّر:
الإسلام منهج حياة، حقيقة مؤصَّلة مُجرَّبة أذهلَتِ العلماء والمفكِّرين، فأخرجت من قلوبِهم وعقولهم شهادات إعجاب، منهج بُنِي تصوُّرُه على أسس معرفيَّة عريقة أصيلة.
فالله خالق الإنسان ومدبِّرُ أحوالِه هو الحاكم فيه، الخبير بِما يصلحه، والإنسان المستخلف في الأرض المسخَّر له ما فيها هو المحكوم بشرع ربِّه، فلا تَعارُض بين طاعة الله والدُّخول في حكمه، وبَيْن عمل الإنسان وبنائه في الأرض، ما دام الخالق واحدًا، والواهب واحدًا، والمشرِّع الحاكم واحدًا هو الله تعالى.
ذلك التصوُّر القائم على حقيقة قاطعة بصحَّةِ وكمال هذا الدِّين، حقيقة الانسِجام الرَّائع بين الدِّين ونظام الحياة، والاعتِقاد والعمل، والرُّوح والمادَّة، والدُّنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].
سُموٌّ أخلاقي:
سُمو أخلاقيٌّ يبعث على الإعجاب والانبهار بالتأصيل لِمَحاسن الأخلاق، وحَمْل المسلمين عليها، بل ورَبْطها بحقيقة إيمانِهم؛ ((الْمُسلم مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده))؛ مسلم من حديث جابر، ((ما آمن بِي من بات شَبْعان وجارُه جائعٌ إلى جنبه وهو يَعْلَم))؛ الطَّبَراني من حديث أنس، وصحَّحه الألبانِيُّ في “صحيح الجامع”، ((لا يؤمن أحَدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّه لنفسه))؛ متَّفَق عليه من حديث أنس.
ذلك السموُّ الأخلاقي الذي اتَّسع ليشمل كلَّ المَجالات السِّلْمية والحربيَّة، مع المسلم والكافر، كان مفتاح قلوب كثيرٍ من الكفار إلى الإسلام، فدوَّنوا أصدق الشهادات العمَليَّة للإسلام، وديوانه الأخلاقي وواقع عمَلِه في النُّفوس.
تسامُح وحرِّية:
لقد كان في مَقْدور الإسلام إبَّان تسلُّطِه على غير المسلمين في البلاد التي فتحَها أو البلاد المجاورة، أن يفعل ما فعَل النَّصارى في الأندلس وأهلِه المسلمين الذين أبادُوهم عن بَكْرة أبيهم في سنوات عدَّة قليلة.
تلك شهادة الكفَّار أنفسهم للإسلام في قانون الحرِّية في اختيار الاعتقاد، والتَّسامح مع المخالف، فتَحْتَ مبدأ: ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]، اختار الناس ما يدينون به دون إكراهٍ على عبادة ولو كانت عبادة الله الحقِّ، وتسامَحَ المسلمون مع أصحاب العهود من الكفَّار بشكل رائقٍ، حَمل كثيرًا منهم على اختيار الإسلام حبًّا وطوعًا.
دين مؤثِّر:
لقد كان للإسلام إعجازٌ في البشر أنفُسِهم، فقد أخرج الجاهليين الأُوَل من ظلمات الجهل والظُّلْم والفجور إلى نور العلم والعدل والعفَّة، ﴿ أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122]؟!
لقد أعجز هذا الإعجازُ الإسلاميُّ الكفَّارَ عن التعبير بإعجابِهم به، بل لقد أثَّرَ الإسلامُ بشهادة الغرب على المجتمع النَّصراني في أوربَّا بعد الاحتكاك بالشَّرق الإسلاميِّ، فظَهَر نوعٌ من الرَّفْض لعِبَادة الكُهَّان، وعدم استساغة الرِّضا بالظُّلم والفجور!
تشريع متكامل:
لقد حوى التَّشريع الإسلاميُّ في جوانب العبادة والمعاملات مَحاسِنَ مُبْهِرة، استوقفَتِ الكافر وبعثَتْه على الإعجاب بِهذا الدِّين، ولَمَّا حضر أبو سفيان قبل إسلامه عند هرقل، فكان مِمَّا سأل هرقلُ أبا سفيان: ماذا يأمرُكم؟ فقال أبو سفيان: “يقول: اعْبُدوا الله وحْدَه، ولا تُشْرِكوا به شيئًا، واتْرُكوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصَّلاة والصِّدق، والعفاف والصِّلة”؛ أخرجه الشيخان من حديث عبدالله بن عبَّاس.
فكانت إجابة أبي سفيان مِمَّا أيقن به هرقل صِدْق النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- فقال قولتَه الشهيرة: “لو أنِّي أعلم أنِّي أخْلُص إليه لأحبَبْتُ لقاءه، ولو كنتُ عنده لغسَلْتُ عن قدَمَيْه، وليبلغنَّ ملكُه ما تَحْت قدمي”؛ الحديث السابق.
إن جعل تشريعات المعاملات بين كلِّ علاقتين في الإسلام عبادةً تُوازي في المسمَّى والحقيقةِ والمآلِ عبادةَ الله تعالى، من صلاة ونسُك، وزكاة وحجٍّ – شيءٌ من شأنه أن يصبغ حياة النَّاس بالربَّانية، ويسدَّ عليهم أهواء النُّفوس وميلها عن الجادَّة.
ولقد شهد الكُفَّار بكمال التشريع في الإسلام، شَهِدوا بِشُموليَّته، كما شهدوا بإبداع واضعِه وحكمته في كلِّ جزئياته.
وللحديث تتمَّة، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه ومن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.