العولمة الثقافية (2)
العولمة الثقافية (2)
إن هذا المفهومَ المضطرب للعولمة، وإن جاء جديدًا في إطلاق المصطلح: العولمة – فإن المَعنيِّين بالمفهوم يؤكدون أن العولمة مفهومٌ قديمٌ قِدَم الحضارات، التي سعت إلى أن تكون هي المهيمنة، متى ما وضح بروزُها، وتبنيها، وفي هذا يذكر الأستاذ كامل الشريف – الأمين العام للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة – أنه “إذا كانت العولمةُ المعاصرة قد اعتمدت الغزوَ الثقافي كأحد الأسلحة؛ لحماية الغزو السياسي والاقتصادي، وشلِّ القدرات الوطنية عن المقاومة، فهو سلاح قديم أيضًا استخدمه الاستعمار القديم على نطاق واسع، وخصوصًا في العالم الإسلامي؛ فالدولةُ الشيوعية حرَّمت دراسةَ القرآن الكريم، وأغلقت المدارس الدينية، ومنعت بناء المساجد إلا في الإطار الذي يخدم السياسة الشيوعية، ويفتح لدعايتها مساربَ في العالم الإسلامي”[1].
إذا دخلنا إلى الاستعمار على أنه أداةٌ من أدوات بسطِ العولمة القديمة، فلا بد من التعريج على مؤثرين آخرين، لا يُستهان بأثرهما في هذا المنحى؛ أحدهما: التنصير[2]، ويُعبَّر عنه أحيانًا بالتبشير، والآخر: الاستشراق[3] – بصفتهما أداتين أُخريين من أدوات تسويق العولمة – بالمفهوم الواسع لهذا المصطلح –[4] وإن لم يكونا واضحين في التأثير؛ إذ إن الأول نحا المنحى التبشيري، والثاني نحا منحى البحث العلمي – فإنهما سخَّرا مهمَّتهما التنصيرية/ التبشيرية والبحثية العلمية في سبيل هيمنة ثقافةِ الرَّجل الأبيض – متلبِّسًا بالدين – على غيرها من الثقافات الأخرى، ومن ثَمَّ فإن هناك من يرى العولمةَ في ثوبها الجديد على أنها “نوع جديد من أنواع الاستعمار، فيه كلُّ ما في الاستعمار القديم من صفات، وله ما لسَلَفِه من الأهداف والغايات”[5].
هناك أيضًا من يدافع عن العولمة، ويرى أنها منهج جديد، سلخ ما وراءه من خلفياتٍ استعمارية، وجاء ليبشِّر بالشُّمولية من خلال سعادة البشرية، وتعميق أواصر الرابطة الإنسانية، وأن الذين يعيدون العولمة إلى تلك العوامل المذكورة أعلاه، إنما يوظِّفون مخزوناتِهم الفكريةَ القائمة على هاجس الاستعمار والغزو الثقافي أو الغزو الفكري.
هذا الدفاعُ عن العولمة هو أحدُ المسارات التي تتجاهل نظريةَ المؤامرة، أو بالأحرى تنفي وجودَ مؤامرة من نوعٍ ما، في الوقت الذي يؤكد فريق آخرُ أن العولمة شكل جديد من أشكال الغزو الثقافي، وأن العولمة “تحمل دائمًا في طيَّاتها نوعًا أو آخرَ من (الغزو الثقافي)؛ أي: من قهر الثقافة الأقوى لثقافةٍ أخرى أضعفَ منها”[6]، إن المسألة – هنا – لا تتعدَّى الانتقالَ بالكون من قريةٍ كبيرة في الماضي إلى قرية صغيرة في الحاضر، وتتصاغر هذه القرية تِباعًا مع الأيام.
لا يحسُن تجاهلُ البعد الثقافي في هذه القرية التي تصغُر مع الأيام؛ بلْهَ الأشهرِ والسنين، والمراد هنا ليس الغزوَ الثقافي من ثقافة مهيمِنة على ثقافة مهيمَنِ عليها، وإن كان هذا من الأبعاد التي لا تُتجاهل، العولمة مهدِّدٌ لمَسْخِ جميعِ الثقافات، وصهرها في ثقافة المجتمع التِّقَني (التكنولوجي) الحديث، كما يحلو للدكتور جلال أمين أن يستأثرَ بهذا الإطلاق، حين تنتفي الثقافة في هذا المجتمع[7].
إلا أن (أنتوني كنج) يستبعد العولمةَ الثقافية؛ ذلك أن المشهد الثقافيَّ الحاضرَ هو من التعقيد والتعدُّد بحيث يتعذَّر صهرُه في بوتَقة واحدة، بغضِّ النظر عن وجهتها؛ “فالناس تنتمي لعدة ثقافات مختلفة، والاختلافات الثقافية قد تكون داخل الدولة (أي بين الأقاليم، والطبقات، والجماعات العِرقية الحَضَرية والريفية)، أو بين الدول، ويتنقَّل المعماريون وخبراءُ التخطيط بين نيويورك ولندن وبومباي بصورةٍ أيسرَ من تنقُّلِهم بين بومباي وقُرى ماهارشترا”[8].
لو تجاهلنا البُعدَ الثقافي ونظرنا إلى العولمة من منطلق اقتصادي بَحْتٍ، فإننا نجد مَن يؤكد قِدَمَ العولمة؛ يقول أحمد هاشم اليوشع: “العولمة ظاهرة قديمة جدًّا، وهي تعبِّر عن سعي الإنسان للبحثِ عن أسواق جديدة لتوزيع منتج، أو للحصول على عوامل الإنتاج (العمل ورأس المال)، فهي تعبيرٌ عن سعي حثيثٍ يصعُب ربطُه بتفكير أو فترة زمنية محدَّدة، وما نعرف عنها أن الدافع الرئيسي لانتعاشها يكاد يقتصر بشكل أساسي على تعظيم الرِّبحيَّة وزيادة الثروة… إن العولمةَ من منظور تاريخي ظاهرةٌ قديمة تمتدُّ لتشملَ أي تجرِبة إنسانية ارتبطت بالبحث عن أسواق جديدة؛ كرحلةِ كرستوفر كولومبس، أو رحلة الشتاء والصيف عند عرب الجزيرة العربية قديمًا”[9].
يمكن أن يُقاسَ على هذه الرحلات القديمة رحلاتُ أهلِ الخليج إلى الشرق – الهند تحديدًا – ورحلات تجار وسط جزيرة العرب – العقيلات – إلى الشام ومصر، بحيث سَرَتْ عبارةٌ في المنطقة تنصُّ على أن: “الشام شامك إذا الدهر ضامك، والهند هندك إذا قَلَّ ما عندك”.
على أن من الباحثين في تحرير المصطلح مَن لا يذهب هذا العمق في التاريخ، وإن اتفق مع غيره على فكرة قِدَم المفهوم، وليس بالضرورة المصطلح، ويُعيد ذلك إلى نشوء الرأسمالية “الأوروبية في حركة تناميها على مستوى الأسواق الأوروبية الوطنية، ثم في خروجها من حدودها الوطنية إلى الأسواق العالمية في المستعمَرات أو في دول العالم الثالث؛ للسيطرة عليها من خلال الشركات ذات الصفة العالمية”[10].
[1] انظر: كامل الشريف، الشباب المسلم والعولمة – مرجع سابق – ص 4.
[2] انظر: علي بن إبراهيم الحمد النملة، التنصير: مفهومه وأهدافه ووسائله وسبل مواجهته، ط 4، الرياض: المؤلِّف، 1426هـ/ 2005م، ص243.
[3] انظر: علي بن إبراهيم الحمد النملة، ظاهرة الاستشراق: مناقشات في المفهوم والنشأة والدوافع والأهداف، ط 2، الرياض: مكتبة التوبة، 1423هـ/ 2003م، ص210.
[4] انظر: فقرة: الاستشراق والتغريب وآثارها غير الإيجابية، ص 269 – 270، في: سيار الجميل، العولمة والمستقبل: إستراتيجية تفكير من أجل العرب والمسلمين في القرن الحادي والعشرين، عمَّان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2000م، ص 439.
[5] انظر: كامل الشريف، الشباب المسلم والعولمة – مرجع سابق – ص 15.
[6] انظر: جلال أمين، العولمة، القاهرة: دار المعارف، 2002م، ص 50، (سلسلة اقرأ، 636).
[7] انظر: جلال أمين، العولمة والهوية الثقافية والمجتمع التكنولوجي الحديث، ص 211 – 229، في: مركز دراسات الوحدة العربية، العولمة وتداعياتها على الوطن العربي – مرجع سابق – ص 258.
[8] انظر: أنتوني كينج، العمارة ورأس المال وعولمة الثقافة، ص 387 – 401، والنصُّ من ص 398، في: ثقافة العولمة: القومية والعولمة والحداثة/ إعداد مايك فيذرستون، ترجمة عبدالوهَّاب علون، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2000م، 411 ص.
[9] انظر: أحمد هاشم اليوشع، عولمة الاقتصاد الخليجي: قراءة للتجربة البحرينية، بيروت، المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر، 2003م، ص 22.
[10] انظر: عز الدين إسماعيل، العولمة وأزمة المصطلح، العربي، ع 498 (5/ 2000م)، ص 165 – 167.