سير المعركة
سَير المعركة
لما تكاملت الصفوف من الطرفين، أرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول: خلوا بيننا وبين ابن عمنا فننصرف عنكم، فلا حاجة بنا إلى قتالكم، فردوا عليه بما يكره، وخرج طلحة بن عثمان حامل لواء المشركين، وقال: يا أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله يعجِّلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل أحد منكم يعجله سيفي إلى الجنة أو يعجلني سيفه إلى النار؟ فبرز إليه علي بن أبي طالب وضرب ساقيه؛ لأنه كان يلبَس درعًا تغطي أعلاه فقطع رجله فسقط وانكشفت عورته، فناشده الله والرحم، فتركه ولم يجهز عليه، فكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لعلي: ((ما منعك أن تجهز عليه؟))، قال: ناشدني الله والرحمَ فاستحييت منه، وكان بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف، فقال: ((مَن يأخذه بحقه؟))، فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، ثم قام أبو دجانة فقال: وما حقه؟ قال: ((أن تضرب به العدو حتى تثخن))، وفي رواية: ((حتى ينثني))، فأعطاه إياه، وكان أبو دجانة شجاعًا، وكان إذا قاتل أعلم بعصابة حمراء، فعصب رأسه ومشى بين الصفين يتبختر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنها مِشية يُبغضها الله إلا في هذا الموطن))، فجعل يقاتل ويجندل الرجال، حتى انتهى إلى نسوة في سفح جبل معهن دفوف وينشدن تشجيعًا للمشركين:
ورأى امرأة تحرض حملة الراية:
إيهًا بني عبدالدار
إيهًا حماة الديار
ضربًا بكل بتار
|
فرفع أبو دجانة السيف ليضربها، ثم كف إكرامًا لسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل به امرأة، وكانت المرأة هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، واقتتل الفريقان قتالًا شديدًا، فالمشركون يقاتلون أخذًا بالثأر وهم موتورون قد صمموا على النصر، والمسلمون يقاتلون بعزيمة وثبات وفي مخيلتهم أن يجددوا نصرهم في بدر، وبرز من مقاتلي المسلمين حمزة بن عبدالمطلب وعلي بن أبي طالب وأبو دجانة والزبير، فألحق المسلمون في الجولة الأولى هزيمة منكرة بالمشركين، وقتلوا حامل اللواء، فسقط على الأرض تدوسه الأقدام، وأقبلت عمرة بنت علقمة فحملته، واجتمع المشركون حوله، وحمله صؤاب، فقتله عليٌّ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما رأى تجمعًا للمشركين أشار إلى علي فيحمل عليهم ويفرق جمعهم، ودخل المسلمون معسكر قريش، وانكشف الكفار عنه، فأقبل المسلمون يريدون نهبه، فلما نظر الرماةُ إلى المعسكر حين انكشف وظنوا أنها هزيمة المشركين وأن النصر للمسلمين، خافوا أن تفوتهم الغنيمة، فتركوا موقعهم على الجبل، واتجهوا للغنائم، لكن عبدالله بن جبير قائد الرماة ذكرهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم بألا يفارقوا الجبل، فأطاع قسم، وعصى القسم الأكبر، وحانت التفاتة من قائد فرسان المشركين خالد بن الوليد، فهاجم الرماة – وقد فعل من قبل مرارًا فصدوه – وقتل من صمد منهم، ثم هاجم المسلمين من الخلف؛ لأنهم انكشفوا للعدو، واختلط الحابل بالنابل، ودارت الدائرة على المسلمين، وكان وحشيٌّ قد ترصد في هذه الفوضى لحمزة الذي كان يفلق الهامات بسيفه، قال وحشي: والله إني لأنظر إلى حمزة يهذ الناس بسيفه هذًّا، ما يلقى شيئًا يمر به إلا قتله، وقتل سباع بن عبدالعزى، قال: فجلست له خلف صخرة، حتى إذا أصبح في مرماي هززت حربتي وقذفتها نحوه، فجاءت في ثنَّتِه – أسفل بطنه – حتى خرجت بين رجليه، وحاول حمزة السير تجاه وحشي ليقتله، لكنه لم يتمالك أن سقط، وعادت هند بنت عتبة لما علمت بمقتله إلى حمزة، وفي غفلة من الناس مثلت به، وكان ممن قاتل حنظلة بن أبي عامر، فقد استطاع أن يوقع أبا سفيان وأن يعلو صدره وقبل أن يجهز عليه، استنجد أبو سفيان بابن شعوب فضرب حنظلة فقتله، وكان حنظلة حديث عُرس، فلما سمع النداء للجهاد خرج مسرعًا ولم يغتسل من جنابته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه لتغسله الملائكة))، فلُقِّب بالغسيل.
وأما هند وصواحباتها من نسوة قريش فقد جدعن الأنوف، وقطعن الآذان، وجعلن منها قلائد وأقراطًا، ومثَّلن بالقتلى، ولما رأى المسلمون ما حل بقتلاهم، وخصوصًا بحمزة، نذر النبي صلى الله عليه وسلم أن يمثل بقتلى المشركين، لكنه تراجع عند قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 126 – 128].