نوح عليه السلام (5)
نوح عليه السلام (5)
استمرَّ نوحٌ صلوات الله وسلامه عليه في ردِّ شبهات قومه، ونبَّه إلى أمر خطير؛ وهو أن الفقراء لا ينبغي أن يُهانوا، ولا ينبغي أن يذلوا بسبب فقرهم، وأن من يتعرَّض للفقراء بالإهانة والإذلال يعرِّض نفسه لعقوبة الله العاجلة والآجلة؛ ولذلك يقول نوح عليه السلام: ﴿ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 29 – 31]، وهنا انقطعت حجَّةُ القوم، وبان باطلهم وبطلت شبههم، فلم يجدوا إلَّا المكابرة واستعجال العذاب، فقالوا: ﴿ قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [هود: 32]، فأجابهم نوح عليه السلام بأنه ليس بيده تعجيل عقوبتهم أو تأجيلها، إنما تعجيل العقوبة أو تأجيلها بيد الله وحده، وفي ذلك يقول: ﴿ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [هود: 33]؛ أي: إذا أراد الله إنزالَ العقوبة بكم لا تستطيعون الفرارَ منها، ولا تتمكَّنون من دفعها عنكم، ﴿ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [هود: 34]، فنَواصيكم بيده، يحكم فيها بما يشاء، لا رادَّ لقضائه ولا معقِّب لحكمه، وأنا لا أملك لكم نفعًا ولا ضرًّا، وإنما عليَّ البلاغ، وفي هذا التنبيه إشارة كريمة جميلة إلى وجوب إخلاص التوحيد لله عز وجل؛ لأن قلوب العباد بيد الله يهدي من يشاء فضلًا، ويضلُّ من يشاء عدلًا، فمن علم في نفسه خيرًا وفَّقه وسدده وأيَّده واستعمله في طاعته، ومن علم في نفسه شرًّا خذله، ووكله إلى نفسه، ومن كتب الله له الهدايةَ لا يشقيه أحد، ومن كتب شقوته لا يهديه أحد.
ولذلك كانت زوجة نوح من الكافرين؛ بل جعلها الله قدوة سيئة لكل كافر إلى يوم القيامة، كما جعل امرأةَ فرعون مثلًا صالحًا وقدوة حسنة لكلِّ مؤمن إلى يوم القيامة، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 10 – 12].
الأسلوب نفسه الذي سلكه كفَّار قوم نوح مع نوح عليه الصلاة والسلام قد سلكه الكفَّارُ مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وسلكته سائرُ الأمم الكافرة مع أنبيائها ورسلها، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى ذلك في سورة (ص) حيث يقول: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ * وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ * وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 12 – 16]؛ أي قالوا: ربنا عجِّل لنا نصيبنا مِن العقوبة قبل يوم القيامة؛ استهزاء برسل الله، وكفرًا بالبعث بعد الموت؛ إذ يقولون لأنبيائهم: نحن لا نصبر على تأجيل العذاب إلى يوم القيام، فإن كان عندكم عذابٌ لنا فعجِّلوا به، يحسبون أن نظام الكون يخضع لشهواتهم وتمنِّياتهم واقتراحاتهم ويجهلون أن كلَّ شيء عند الله بمقدار؛ لأنه ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴾ [الرعد: 9]؛ ولذلك قال لهم نوح عليه السلام لما استعجلوا العذاب: ﴿ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [هود: 33]؛ لأن الأمور كلها ترجع إليه، وترد جميع قضايا الكون له وحده لا شريك له؛ ولذلك ينبغي للعاقل أن يضرع إلى الله أن يثبت قلبه بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يكثر من قول: “يا حي يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، برحمتك أستغيث فأصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي أو إلى أحد من خلقك طرفة عين، إنك إن وكلتني إلى غيرك وكلتني إلى عجز وضعف وفاقة”.
وبعد بيان موقف نوح عليه السلام هذا لفت الله تبارك وتعالى انتباهَ الناس إلى إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه فيما يخبر به، وهو النبي الأمي صلى الله عليه وسلم الذي أنزل الله عليه القرآن، فأخبر بما كان بين نوح وقومه ولم يكن شاهدًا ولا دارسًا حيث يقول عز وجل: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ﴾ [هود: 35]، وبهذا يثبت فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم، ويبرز العبرة من سياق قصة نوح عليه السلام، وكما أشار إلى نحو ذلك في سياق قصة موسى عليه السلام حيث يقول: ﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [القصص: 44 – 46]، وقد أخبر الله تبارك وتعالى نوحًا عليه السلام أنه لن يؤمن من قومه بعد ذلك أحدٌ حيث يقول: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [هود: 36].
وهنا يتجلَّى موقف من المواقف الكبار لأنبياء الله ورسله، وكثيرًا ما يقفونها، وهو أن نوحًا عليه السلام لما استَيْئَس من قومه وعلم أنه لن يؤمن من قومه إلا مَن قد آمن بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا وقف خطيبًا بينهم وقال: ﴿ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ﴾ [يونس: 71]، يقول لهم: هاتوا جميع معبوداتكم من دون الله وحزِّبوا أحزابكم وأصنامكم ضدي، وكونوا يدًا واحدة عليَّ وحاربوني إن قدرتم وكيدوا لي ما استطعتم ولا تمهلوني وانظروا أينا يؤيِّده الله ويسعده ويعزه ويعليه في الدنيا والآخرة.
وهذا مقام تتقاصر دونه مقامات كبار الرجال وصناديدهم من غير الأنبياء والمرسلين، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ﴾ [يونس: 71].
وإلى فصل قادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.