أحمد الفران يكتب: المؤسسة الثقافية المصرية تبحث عن هويتها
ثقافة أول اثنين:
الغَلبةُ للطليان!.
كان 1811 خطاً فاصلاً فى تاريخ مصر الحديث، فهو العام الذى استطاع فيه “محمد على” إطباق سيطرته على زمام الأمور فى مصر، بعد عقود بل قرون من حالة عدم الاستقرار السياسى الذى صاحب مصر لفترات طويلة، ففيه استطاع القضاء على المماليك، وتفرغ للإصلاح الداخلى، والذى بدأُه بإنشاء المدرسة الحربية بالقلعة لضم ما تبقى من أولاد المماليك وغلمانهم إليها لتدجينهم، وكانت الغلبة حينها للثقافة الإيطالية، فلغة المدرسة هى الإيطالية، ومدرسى المدرسة من الطليان.
ولا عجب فى ذلك، فالثقافة الإيطالية آنذاك حجزت لنفسها مكان الصدارة فى تريب الثقافات الأجنبية فى مصر، الأمر الذى دفع محمد على إلى الاعتماد على الطليان فى خطواتها الإصلاحية الأولى، فالعلاقات التجارية بين مصر والجمهوريات الإيطالية متينة وثيقة طوال العصور الوسطى، والجالية الإيطالية هى أكبر جالية أجنبية فى مصر، واللغة الإيطالية منتشرة بشكل كبير للغاية فى مختلف الثغور المصرية، حتى أنها كانت اللغة الرسمية فى مخاطبات القنصليات غير الإيطالية فى مصر، وعلى الجانب الأخر، فالإيطاليون يعرفون اللغة العربية، والعامة من المصريين “يتكلمون ببعض شئ من اللغة الطليانية” على حد وصف رفاعة الطهطاوى فى تلخيص الأبريز.
وعلى الجانب الآخر، فالثقافة الفرنسية قد انحسرت بمصر مع خروج الفرنسيين، ولكنهم لم ييأسوا، ويعدون العدة لغزو ثقافى جديد منزوع السلاح؛ والثقافة العثمانية تنقطع شيئاً فشيئاً، والرجل المريض “الدولة العثمانية” تتقاسم القوى الاستعمارية ملكه، الذى يزول هو الأخر شيئاً فشيئاً؛ والإنجليز لا يعرفون سوى ثقافة البندقية ويتحينون الفرصة للانقضاض على مصر.
داخلياً، محمد على مشغول بترتيب أروقة الدولة المصرية، ويعيد بناء كل شيء، حتى بناء نفسه شخصياً، فالرجل قد أتم تعلم القراءة والكتابة فى عام 1815 وهو فى سنة الخامسة والأربعين، ولم يجد سوى الطليان للاعتماد عليهم، لتكون اللغة الايطالية أول لغة أوروبية إلى جانب العربية والتركية يتم تدريسها بالمدرسة الحربية، وعندما فكر فى إرسال البعثات إلى أوروبا كانت إيطاليا هو وجهته الأولى.
البعثات العلمية.. أول مشروع ثقافى متكامل فى مصر الحديثة
وهنا لا بد أن نتوقف كثيراً أمام فكرة البعثات الأوروبية، باعتباره أول مشروع ثقافى قومى متكامل فى مصر الحديثة، استطاع أن يرسم ملامح الحركة الثقافية المصرية حتى يومنا هذا، فهى الفكرة التى حار أمامهم جٌل المفكرين والمؤرخين المصريين!، فيكف لرجل مثل محمد على لا يعرف القراءة ولا الكتابة أن يبتكر أو يتبنى تلك الفكرة الوليدة، حتى كتب الرافعى المؤرخ يقول “لو تأملت ملياً فى العصر الحديث الذى نشأت فيه البعثات العلمية لعجبت لعبقريته كيف أنبتت مثل هذا المشروع؟. ففى ذلك العصر لم يفكر حاكم شرقى ولا حكومة شرقية فى إيفاد مثل هذه البعثات. وهذه تركية -وسلطانها كان يملك من الحول والسلطة أكثر مما يملك محمد على- لم تفكر حينذاك أصلاً فى إيفاد البعثات المدرسية إلى المعاهد الأوربية، فصدور هذه الفكرة، فى ذلك العصر الذى كان محمد على مشغولاً فى مختلف الحروب والمشاريع والهواجس، يدل فى حقيقة الأمر على عبقرية نادرة وهمة عالية”.
واري
كثيرون اختلف حول منشأ فكرة البعثات هل محمد على، أم القناصل المحطين به، أم المستشرقين المراقبين لأحوال الدولة المصرية، أم غيرهم، كل ذلك لا يخفى الإعجاب بمحمد على ودهائه، فالرجل يمتلك رؤية واضحة وصارمة لما يريد تحقيقه من تلك البعثات، وكان يأمل فى إيجاد جيل من المصريين ليحلوا محل الأجانب المسيطرين على مختلف المناصب بالدولة، فضلاً عن أن يكون أعضاء البعثات أداة صالحة لنقل علوم الغرب وفنونه وترجمتها إلى اللغة العربية.
ما يزيد الإعجاب بالرجل ومشروعه أن كان يريد أن يحتفظ لمصر بقومتيها ولغتها، ويراقب أحوال المبتعثين بكل صرامة، فذاك “أدهم بك” رئيس المدفعية ومدير ورش المهمات الحربية، قد ابتعث إلى انجلترا للدراسة، وهناك تزيا بزى الإنجليز، وحاكاهم فى أحوالهم وعاداتهم، فعلم بذلك محمد على فأرجعه مغضوباً عليه، وقال “إنى بعتثه ليعاين ويقف على صنائعهم لبثها إلى مصر، لا ليقلدهم فى ملابسهم وعاداتهم” ثم عفا عنه بعد ذلك بشفاعة حفيده عباس باشا.
فى تقريره عن مصر وكندا، وثق بورنج مندوب الحكومة البريطانية لأغراض محمد على من البعثات الأوروبية، ليقول له محمد على “إن أمامى الشيء الكثير لأتعلمه أنا وشعبي، فانا الآن مرسل إليكم أدهم بك ومعه خمسة عشر شاباً مصرياً، ليتعلموا ما يمكن لبلادكم أن تعلمه، فعليهم أن ينظروا إلى الأشياء بأعينهم وأن يتمرنوا على العمل بأيديهم، وعليهم أن يختبروا مصنوعاتكم جيداً، وأن يكشفوا كيف ولم تفوقتم علينا، حتى إذا ما قضوا وقتاً كافياً بين شعبكم عادوا إلى وطنهم وعلموا شعبى …”.
زد على ذلك، أن كل أمر يخص البعثات كان لا يمر مرور الكرام أبداً لدى محمد على، فالرجل يفكر، يختار، يبتعث، يراقب، ويختبر؛ فلما عاد أعضاء البعثة الأولى استقبلهم بمقر حكمه بالقلعة، وسلم كلا منهم كتاباً بالمادة واللغة التى درسها بأوروبا، وطلب منهم أن يترجموا تلك الكتب إلى العربية، وامر ببقائهم بالقلعة، وألا يؤذن لهم بمغادراتها حتى يتموا ترجمة ما عهد إليهم به، فترجموها فعلاً، وأمر بطبعتها فى مطبعة بولاق، وتوزيعها على المدارس التى وضعت لها تلك الكتب.
ومنها ظهر أول جيل من المصريين المؤهلين لتولى المناصب العليا فى الدولة المصرية، “أحمد باشا فايد” عضو البعثة الإيطالية 1813″، “نقولا مسابكى أفندي” عضو البعثة الفرنسية 1815 الذى تولى فيما بعد مديراً لمطبعة بولاق، “عثمان نور الدين باشا” أول مبعوث مصرى إلى أوروبا يساعد الحكومة المصرية فى ترجمة الكتب حتى خصص لها محمد على قصر “اسماعيل بن محمد على” ببولاق، للقيام بأعمال الترجمة التى تخدم مصالح الدولة، وغيرهم الكثير ممن شكلوا لبنات الحركة الثقافية المصرية الحديثة.
امتداد عصر البعثات العلمية إلى أوروبا فى عهد محمد على إلى ما يقرب من ثلاثين عام كاملة بين عامي”1809 : 1847″، وكانت تلك البعثات هو الباب الكبير الذى عاد منه النفوذ الفرنسى فى مصر مرة أخرى، ومن خلالها أيضاً تقلص الدور الإيطالى فى مصر، وفيها وجد الإنجليز مأربهم للتقرب إلى والى مصر، فكيف حدث ذلك؟