Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

داود وسليمان عليهما السلام (6)


داود وسليمان عليهما السلام (6)

 

كان سليمانُ عليه السلام شديدَ العناية بجنوده من الجنِّ والإنس والطير، وكان يتفقَّدُهم ولا يغفل التفتيش عليهم؛ ليطمئنَّ على انضباطهم، وفي أثناء التفتيش تفقَّد الطيرَ ولم يجد الهدهد فقال: ما لي لا أرى الهدهد؟ أشيء يستره عني، أم هو غير حاضر؟ فلما تأكد أنه غير موجود قال: لأعذبنَّه عذابًا شديدًا دون قتله أو لأقتلنَّه، إلا إذا جاء بعذر مقبول يدفع العقوبةَ عنه، ولم تطُلْ غيبة الهدهد حتى حضرَ إلى سليمان عليه السلام وبادره بقوله: علمتُ ما لم تعلم، وجئتُك من أرض اليمن من مملكة سبأ بخبرٍ عظيم قاطع لا شكَّ فيه ولا ريب، إني رأيت امرأة تتولَّى مملكتهم، وقد أُعطيَت جميع أسباب ما يرغب في اقتنائه الملوك المقتدرون من الرَّغَد والسَّعة والأبهة، ولها عرش فاخر، وجدتها مع قومها سبأ أبناء يشجب بن يعرب يعبدون الشمس ويسجدون لها من دون الله، وقد زخرف الشيطانُ لهم طريقَ الشرك، فصدَّهم عن الحق وحال بينهم وبين إخلاص العبادة لله وحده الذي لا يجوز لأحد أن يعبد شيئًا سواه، فَهُم بالرغم من انفتاح الدنيا عليهم، وتقلُّبهم في نعماء الله – لا يهتدون إلى توحيد الله، يا حسرةً عليهم! لماذا لا يسجدون لله وحده الذي يعلم غيب السماوات والأرض، ولا يخفى عليه شيء فيها، ولو كانت الخبيئة مثقال ذرة في السماوات أو في الأرض يأتي بها الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم؟!

 

وفي تهجين الهدهد لما تفعلُه ملكة سبأ هي وقومها من عبادة غير الله لَفْتُ انتباهِ الناس إلى تقرير الحقيقةِ الكبرى التي من أجلها خلق الخلق وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وأن الهدهدَ في هذا السبيل أعقلُ من كثير من الناس وأهدى، ولم يسارع سليمان عليه السلام إلى تصديقِ الهدهد أو تكذيبه، بل توقَّفَ في قبولِ خبره حتى يقِفَ على حقيقة هذا الأمر، وكتب كتابًا فيه: ﴿ مِنْ سُلَيْمَانَ ﴾ ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ ﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾، وأمر الهدهد أن يكون هو الحامل لهذه الرسالة إليهم، فذهب الهدهد وألقى الرسالةَ على الملكة، ووقف يراقبُ: ماذا يكون من جوابِهم على هذه الرسالة؟ وماذا استحدث من أثر فيهم، وكان ذلك بإرشاد سليمان عليه السلام، فلما قرأت الملكة الكتابَ جمعت أمراءها ووزراءها وكبار مستشاريها ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 29 – 31]، وقالت ملكة سبأ أيضًا: يا أيها الملأ أشيروا عليَّ بما ترونه في هذا الأمر، فإني لا أقطع برأي ولا أستبد في أمر دون مشورتكم وأخذ رأيكم، فأجابوها بأنهم جميعًا يدٌ واحدة أقوياء أشداء في الحروب، ورأيُكِ مطاعٌ وأمرك نافذ، فانظري أيَّ رأي ترغبين فيه فنحن نسارع إلى طاعتك، ولا نعصي لك أمرًا، فأخبرتهم أنها تميل إلى مصانعة سليمان، والتلطُّف معه ومحاولة اكتساب رضاه؛ لأن الملوك الأقوياء إذا تمكنوا من بلد واستولوا عليها بالحرب حصل على أهلها ذِلَّة وصغار وتخريب ﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ﴾ [النمل: 35]، وأنتظر الجواب منهم مع رسلي الذين أرسلتهم بالهدية.

 

فلما وصل رسول ملكة سبأ بالهديَّة وعرضها على سليمان عليه السلام وكانت أموالًا جزيلة، فرَدَّها سليمان عليه السلام ولم يقبلها و﴿ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ ﴾ [النمل: 36] فما أنعم الله عليَّ به من النبوة والمُلك خيرٌ من جميع ما بأيديكم من زخارف الحياة الدنيا، إنما يفرح بما يقدم إليه من مثل هديتكم مَن كان مِن أهل المفاخرة والمكاثرة بزخارف الحياة الدنيا، وقد أعطاني الله عز وجل ما لم يُعطِه أحدًا من ملوك الدنيا المعاصرين لي وغيرهم، ثم أمر رسول ملكة سبأ بالرجوع بهديتها، وأعلمه أنه سيغزو بلادهم بجنود لا طاقة لأهل سبأ بها، وليُخرجنَّهم منها أذلَّة وهم صاغرون إن لم ينقادوا لأمر الله ويأتوني مسلمين قبل توجُّهي بجنودي نحو بلادهم، وأراد سليمان عليه السلام أن يَضرب لها مثلًا محسوسًا على قدرته بإذن الله عليها، فقال: ﴿ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 38]، فأجابه عفريت من الجن قائلًا: أنا آتيك به قبل أن ينفضَّ مجلسُك هذا، وإني عليه لقادر، فلا يعجزني حمله، وأمينٌ فلن أضيِّع شيئًا مما فيه من الجواهر، والعفريت هو القوي النافذ في الأمر المبالغ فيه مع دهاء، ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ والظاهر أنه جبريل عليه السلام؛ لأنه رسولُ الله بالكتاب إلى الأنبياء وهو يقرؤه عليهم قال: ﴿ أَنَا آتِيكَ بِهِ ﴾ في وقت أسرع، وهو أن أحضر لك عرش الملكة قبل طرفة عين، وفي الحال رأى سليمان عليه السلام العرشَ مستقرًّا أمامه، فأقبل سليمان على شكر الله تعالى والثناء عليه و﴿ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ [النمل: 40]، وأراد سليمان عليه السلام أن ينبِّه العباد إلى أنه يجب عليهم شكر الله عند تجدد النعم، وأنه لا يجوز لأحد أمده الله بأسباب القوة أن يخطر على باله بأن يثبت لنفسه حولًا أو قوة، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وهو على حدِّ قول الشاعر: إيَّاك أعني واسمعي يا جارة؛ ولذلك أتبعه بقوله: ﴿ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40].

 

ولمَّا علم سليمان أن ملكة سبأ توجَّهتْ إليه أمَرَ بإدخال بعض التعديلات الطفيفة على العرش؛ ليختبر ذكاءَها وفطنتها، فلما جاءت ورأت العرش قيل لها: ﴿ أَهَكَذَا عَرْشُكِ ﴾ [النمل: 42] ولم يقلْ: أهذا عرشك؟ لأنه لو قيل: أهذا عرشك؟ فقالت: نعم؛ لم يكن نصًّا في نجاحها في الاختبار، فلما قيل لها: ﴿ أَهَكَذَا عَرْشُكِ ﴾؟ أي: أهو شبيه بهذا العرش، فأجابت إجابة الفطن الواعي: ﴿ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾ [النمل: 42] فلم تُثبت ولم تنفِ، ولكنها أكَّدت شدةَ الشبه بعرشها.

 

وفرح سليمان والمؤمنون بذلك، وشكروا الله على أنهم أسبق منها بالعلم والإسلام، وكان قد صدَّها عن معرفة الله تعالى ما كان عليه قومها من عبادة غير الله، إنها كانت من قوم كافرين، فأمرها سليمان عليه السلام بدخول الصرح، وكان قصرًا مملسًا بالزجاج، وأرضه مملسة به حتى يحسبه من لا يعرفه ماء كثيرًا يحتاج إلى رفع الثياب عن الساق حتى لا تبتلَّ الثياب؛ ولذلك رفعت الملكة ثيابها وكشَفَتْ عن ساقيها، فأخبرها أنه ليس ماء وأنه ﴿ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ ﴾، فأيقنت أن مُلكها الذي أوتيت فيه من كل شيء ضئيل بالنسبة إلى ما أعطاه اللهُ لسليمان، وأعلنت إسلامها وانقيادها إلى أمر الله وطاعة سليمان عليه السلام، وأقرَّت بأنها ظلمت نفسَها عندما سجدت للشمس وعبدت غير الله: ﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44].



المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى